لم ولن تكون ورشة المنامة الحالة الوحيدة للسعي نحو التطبيع المُعلن مع (إسرائيل)، تحت حُجج واعتبارات واهية، ولكن سبقتها محاولات عديدة عبر عشرات السنين، ومن أطراف، للأسف، عربية تدّعي الحرص والحفاظ على ما تبقّى من أرض، وتوهم نفسها بأنها تسعى للتعامل مع الأمر الواقع، وتخدع شعوبها، وتبيع مقدراته بثمن بخس!
ولن تكون تصريحات وزير خارجية البحرين “خالد بن أحمد آل خليفة” الأخيرة؛ التي دعا فيها إلى التطبيع مع إسرائيل والاعتراف بأنها دولة “باقية”، كما قال: “إن لإسرائيل الحق في أن تعيش داخل حدود آمنة”، مؤكدًا أن بلاده ودولاً عربية أخرى تريد التطبيع معها، وذهب أكثر من ذلك بدعوة الإسرائيليين إلى التواصل مع القادة العرب، والتوجه إليهم بخصوص أي مشاكل تحتاج حلا!
يبدو إذن من هرولة معظم الحكام العرب نحو التطبيع مع (إسرائيل) فقدانهم البوصلة تمامًا، وانصياعهم التام لرغبات المحتل، دون أدنى مقابل، فمن مواجهة الاحتلال إلى التطبيع الكامل معه، وهذا يدعونا لطرح السؤال الجوهري؛ ما الذي يجري ويحدث في المنطقة للتسليم التام لإسرائيل؟!
الهرولة السياسية نحو إسرائيل
ليس كما يرى البعض أن بداية التطبيع مع الكيان الصهيوني كانت في أعقاب توقيع اتفاقية “كامب ديفيد” في العام 1978 مع مصر، بل تعود إلى العام 1948، حين وضعت دولة الاحتلال أولى أقدامها فوق أرض فلسطين، وحينها كان التطبيع في إطار الخفاء والكتمان.
ثم جاءت كامب ديفيد لتنقل التطبيع من مرحلة الخفاء إلى العلن، تبعتها الأردن هي الأخرى في العام 1994 عبر اتفاقية “وادي عربة”، ورغم الرفض الشعبي حينها لمثل هذه الاتفاقيات التي اقتصرت في مراحلها الأولى على التعامل الرسمي فقط، غير أنه ومع مرور الوقت بات الأمر مستساغًا لدى قطاعات عريضة من الجماهير العربية على المستويات كافة، بفضل المخططات التي بذلتها بعض العواصم العربية المهرولة إلى بناء شراكات مع تل أبيب.
وفي الـسنوات الأخيرة تحديدًا وبفضل المستجدات الإقليمية والسياسية قفزت مسيرة التقارب العربي الإسرائيلي قفزات خطيرة، وشهدت نقلة نوعية وضعت بعض الكيانات العربية على خريطة التطبيع بصورة واضحة، وهو ما كُشف عنه فيما بعد من خلال التسريبات الصحفية تارة والإلكترونية تارة أخرى، للعديد من المسؤولين العرب.
الإمارات والسعي بقوة نحو التطبيع
تُعد دولة الإمارات على رأس قائمة الدول العربية، غير الموقعة اتفاقيات رسمية، التي أقامت شراكات للتطبيع غير المسبوق في التاريخ العربي كله، تخطت البُعد السياسي إلى آفاق اقتصادية وعسكرية وأمنية وصلت في بعض الأحيان إلى النيابة عن تل أبيب في القيام ببعض الجوانب الاستخباراتية ضد الجانب الفلسطيني.
وقد نشر موقع “ويكيليكس” وثيقة مؤرخة بـتاريخ 24 من يناير/كانون ثاني 2007، كشفت تدفق وفود إسرائيلية وأمريكية يهودية على دولة الإمارات سرًّا، كما نقلت تصريحات منسوبة لولي عهد أبو ظبي، محمد بن زايد، قال فيها لـ “شيمون بيريز” نصًا إن الإمارات لا تعتبر (إسرائيل) عدوًا، واليهود مرحب بهم في الإمارات، كما تعد أول عاصمة خليجية تستضيف ممثلية دبلوماسية للحكومة الإسرائيلية فوق أراضيها.
كما صوتت الإمارات في العام 2015 بجانب مصر بالموافقة على عضوية (إسرائيل) في لجنة استخدام الفضاء الخارجي للأغراض السلمية التابعة للأمم المتحدة، كما قال مدير برنامج سياسات الخليج في معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى، “سايمون هندرسون” في مقال له أواخر 2016: “إذا نحينا اغتيال المبحوح جانبًا، فإن أوثق العلاقات الإسرائيلية في منطقة الخليج هي مع دولة الإمارات العربية المتحدة”.
وفي شهر مايو/آيار 2016 كشفت صحيفة “الأخبار” اللبنانية عن ضلوع دولة الإمارات عن طريق محمد دحلان في تبني مشروع صهيوني يعمل على تهويد مدينة القدس والبلدة القديمة فيها، عبر شراء منازل الفلسطينيين وممتلكاتهم العقارية فيها، ونقل ملكيتها إلى مستوطنين صهاينة بالتعاون مع شخصيات فلسطينية نافذة.
هذا بخلاف ما كشفته تسريبات البريد الإلكتروني لسفير الإمارات في واشنطن “يوسف العتيبة”، بشأن إقامته علاقات ودية وثيقة مع السفير الإسرائيلي في أمريكا “رون ديرمر”، وأنهما متوافقان تقريبًا في كل شيء، فضلاً عن علاقاته القوية بمؤسسة “الدفاع عن الديمقراطية” المعروفة بولائها المطلق لـ (إسرائيل)، وبتوجهاتها اليمينية المتشددة إزاء الإسلام، وتتلقى تمويلًا من منظمة المؤتمر اليهودي العالمي.
مساعي السعودية للتطبيع مع إسرائيل
تسير السعودية على طريقة ونهج الإمارات، فتدرّجت في علاقاتها مع الكيان الصهيوني عبر عدة مراحل، بدءًا بمرحلة الرفض الكامل ثم الاتصالات غير الرسمية المرفوضة مرورًا باللقاءات السرية وصولًا إلى الانتقال إلى المرحلة العلنية، لتصبح المملكة شريكًا أساسيًا في اتفاقية السلام الموقعة بين مصر ودولة الاحتلال، بعد فرض سيادتها فوق جزيرتي تيران وصنافير، التي سلَّمها لهم السيسي طواعية، وتأتي في إطار المخطط الأمريكي الذي يسمى إعلاميًا بـ “صفقة القرن”.
وثمة شخصيات سعودية نادت في السابق بالتطبيع مع “دولة الاحتلال”، وبعضهم التقى بالصهاينة علنًا، كما حصل أكثر من مرة مع الأمير “تركي الفيصل”، الرئيس الأسبق للمخابرات السعودية، الذي قال في حوار له مع الجنرال الإسرائيلي “يعقوب عميدرور”، مستشار الأمن القومي الإسرائيلي السابق، عن “الأمن والسلام في الشرق الأوسط” في مايو/آيار 2016: “أمنيتي الأكبر، وأتمنى أن يمكنني تحقيق ذلك غدًا، هي أن أذهب للصلاة في القدس”، وتابع” أملي أنه في حياة أبنائي وأحفادي نكون قد تجاوزنا هذه الخلافات، ونكون كما قلت سابقًا أشخاصًا توصلوا إلى السلام ويمكنهم العمل معًا من أجل وضع أفضل للإنسانية”.
والحقيقة أن رؤية ابن سلمان الجديدة تسعى إلى إخراج المملكة من معادلة الصراع العربي الإسرائيلي، وهو يطمح إلى تمكينه من العرش، بدفع الثمن الذي يتمثّل في بناء تحالف مع إسرائيل لمحاربة إيران، وجعلها حليفًا استراتيجيًا، كما فعل مع ترامب.
التطبيع الاقتصادي كأداة فاعلة
لقد أبرمت الدول العربية عشرات الاتفاقيات في مجال التعاون الاقتصادي مع (إسرائيل) في شتى المجالات، خاصة التجارة والطاقة، وهما أكثر النوافذ التي استطاعت تل أبيب من خلالهما إنعاش منظومتها الاقتصادية بصورة كبيرة خلال السنوات الماضية منذ العام 2000 وحتى الآن.
وقد بلغت حكومة السيسي أقصى درجات التطبيع مع (إسرائيل) منذ توقيع معاهدة السلام قبل 40 عامًا، والتي امتدت على مدار عدة سنوات، قبل أن تحقق لإسرائيل مبتغاها بتصدير الغاز الفائض عن حاجتها، حيث أُعلن في فبراير/شباط 2018 عن توقيع اتفاق بين ثلاث شركات؛ (مصرية وإسرائيلية وأمريكية)، لشراء الغاز الطبيعي الإسرائيلي وتوريده إلى مصر.
ومن أبرز الاتفاقيات الموقعة، أيضًا، مع دولة الاحتلال تلك الموقعة مع الأردن، والتي بموجبها تستورد الأخيرة الغاز الإسرائيلي من حقل “لفيتان البحري” لصالح شركة الكهرباء الأردنية، ونص الاتفاق على تزويد المملكة بنحو 45 مليار متر مكعب من الغاز بقيمة 10 مليارات دولار على مدار الـ 15 عامًا المقبلة.
هذا بخلاف التقارب مع السعودية، ففي 12 من أغسطس/آب 2016 نشرت بعض المواقع خبرًا يفيد بهبوط طائرة شحن سعودية في مطار عمَّان قادمة من مطار بن جوريون في تل أبيب، مع تأكيد وزير الاتصالات الإسرائيلي وجود مفاوضات مع السعودية لتسيير رحلات جوية مباشرة من تل أبيب إلى المملكة.
بالإضافة إلى العلاقات الاقتصادية الوثيقة بين تل أبيب وأبو ظبي عن طريق شركة مستقبل الإمارات والتي تربطها علاقات قوية بشركة “حجازي وغوشة” في الأردن، وهي شركة رائدة في مجال تصدير المواد الغذائية والمواشي ولها نفوذ قوي داخل الأردن.
وتأتي ورشة المنامة التي عُقدت تحت عنوان “السلام من أجل الازدهار” لمدة يومين إلى جمع استثمارات بخمسين مليار دولار على مدى عشرة أعوام، وتعتبر الشق الاقتصادي للخطة الأمريكية لسلام الشرق الأوسط بقيادة “جاريد كوشنر” مستشار الرئيس دونالد ترامب، والمبعوث الخاص جيسون غرينبلات.
وفي تقديري أن هذه الورشة قد فشلت قبل أن تبدأ، ولعل هذا ما ذكرته صحيفة “الغارديان” البريطانية، بأن الخطة الاقتصادية التي طرحها كوشنر، “مسرحية هزلية”، تستحق “الاستقبال الساخر” الذي لاقته.
إذن ثمّة رابطٌ عجيبٌ في التزامن بين صعود محور الثورات المضادّة في المنطقة العربية، وتصاعد التطبيع مع دولة الاحتلال؛ إذ هرولت النظم العربية التي تصدّرت المشهد عقب العام 2013 إلى التطبيع مع المحتل، ونقلته من السر إلى العلن، كما شنّت تلك القوى حربًا مسعورة، ليس ضد بعض الفصائل السياسية الفلسطينية، أو فصائل المقاومة فقط، بل ضد القضية الفلسطينية برمتها، وكل من يساندها من الشعوب والجماعات والدول، كما تبنّت تلك الأنظمة حملة تشويه للقضية الفلسطينية، عبر الإعلام الرسمي، وتوظيف جيوش من المغرّدين والناشطين عبر وسائل التواصل الاجتماعي، لذات الهدف.
لقد أصبحت القضية المحورية (قضية فلسطين) قضية ثانوية في منظومة حسابات تلك الأنظمة التابعة الخانعة والمهرولة، بل أصبحت تدفع في اتجاه الضغط بإنهاء ملفاتها أو تجاوزها. أمّا الطرف الإسرائيلي فوجد ذلك فرصة تاريخية للالتفاف على الجانب الفلسطيني، وإفقاده الظهير العربي، ولفرض الرؤية الصهيونية في تسوية “الملف الفلسطيني”.
ولعل بوادر ما يسمى بصفقة القرن، ظهرت جلية وواضحة في الاعتراف الأمريكي بالقدس عاصمة للكيان الإسرائيلي ونقل السفارة الأمريكية إليها.
وعلى ذلك، فبدل أن تقوم الدول العربية بمواجهة الإجراءات الأمريكية والهجمة الصهيونية، على القدس والمقدسات وعلى الأرض والإنسان؛ قامت بفتح عواصمها للاحتلال الإسرائيلي بشكل مخجل.
أقول: لن تستمر هذه الموجة من الخيانة والتطبيع، وسوف تنحسر في المدى المنظور، وستجد تلك الأنظمة أنها قفزت في الهواء، وأجرمت في حق شعوبها، وأن الصهاينة استخدموهم لتحقيق مصالحهم؛ وأن ارتباط هذه الأنظمة العربية بإسرائيل سيكون الطريق لنهايتهم، وستظل قضية فلسطين القضية الموحدة للأمة، والرافعة لمن يرفعها ويرعاها، والكاشفة الفاضحة لكل من يخذلها أو يتنازل عنها.
ولعل ما عبّر به الرئيس مرسي، يرحمه الله، بقوله: “لا تقتلوا أسود بلادكم فتأكلكم كلاب أعدائكم”، ينطبق على تلك الطُغمة المهرولة نحو التطبيع.