إن الإسلام يدرك تمام الإدراك ماذا يحدث لو أهملت المبادئ الأخلاقية في المجتمع، وساد فيه الخيانة والغش، والكذب والسرقة، وسفك الدماء، والتعدي على الحرمات والحقوق بكل أنواعها، وتلاشت المعاني الإنسانية في علاقات الناس، فلا محبة ولا مودة، ولا نزاهة ولا تعاون، ولا تراحم ولا إخلاص.
والحل يبدأ في البداية من الأسرة التي عليها واجب التركيز على التوجيه والإرشاد، وتقديم النصح، وتبيان الصحيح والخطأ بدون الصراخ والعويل، بل عبر الحوار الهادئ المتّزن والهادف، كما يجب على الآباء والأمهات أن يراقبوا الأبناء بحذر لكي يعرفوا ما يشاهد الأبناء على التلفاز، وعلى وسائل التواصل الاجتماعي المتوفرة لدى الأسرة.
أما الثقة المطلقة في استقامة الأبناء فهذا خطأ فادح، ويجب ألا نغفل عن دور الأسرة التعليمية لمراقبة انحراف السلوكيات في المدارس في جميع مراحلها، وحتى الجامعات.
والدور التربوي للمدرسة لا يقل أهمية عن دورها التعليمي، فلا فائدة من تخريج أجيال متعلّمة بلا وعي، أو أخلاق أو مهارات تمكّنها من استغلال ذلك العلم، وقد اقترن الدور التربوي للمدرسة بدورها التعليمي منذ نشأتها الأولى، ففي صدر الإسلام كان المسجد هو المدرسة النظامية الأولى للمسلمين، وفي عهد الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه تطور الأمر، فأنشأ بجانب المساجد كتاتيب لتعليم الأطفال وتربيتهم، وأخذ الأمر في التطور إلى أن وصلنا إلى نموذج المؤسسة التعليمية الذي نعرفه اليوم، وقد تغيّر الشكل وتعددت الآليات، ولكن ظلت المدرسة تؤدي نفس المهمتين المنوطتين بها، وهما التعليم والتربية.
ومن أهم الركائز لتقويم السلوكيات للشبان والشابات؛ دور الإعلام الذي يجب أن يلعب دورًا مهمًا وحاسمًا في رفع مستويات السلوك القويم، ويجب على المحطات الفضائية والصحافة أن يتعاملا بجدية مع الفساد الأخلاقي والسلوكي، وعدم التستر على من يتسببوا في إفساد المجتمع، وتقديم البرامج الهادفة مع التركيز على حسن الخلق والتربية الصالحة، والقدوة الحسنة، وتاريخنا الإسلامي مليء بمثل هذه النماذج بدلًا من التنافس العقيم على المسلسلات والدراما غير الهادفة سوى التسلية.
والمجتمع الأخلاقي والبيئة الصالحة لهما دور كبير في بث الأخلاق الحميدة في نفوس الأفراد، فإذا كان المجتمع مؤمنًا موحِّدًا عقائديًا، فهو نظيف أخلاقيًا، والقانون الأخلاقي يأتي في درجة ثانية بعد الإيمان؛ لأن الأخلاق لا بد لها أن تنبثق من عقيدة، وبمقدار ما تكون الأخلاق في المجتمع قوية سليمة بمقدار ما يكون المجتمع راقيًا رفيعًا إنسانيًا.
ومن أبرز النماذج التي دلّت على غرز الإسلام للمعاني الأخلاقية في نفوس أتباعه، ما قاله الصحابي الجليل “جعفر بن أبي طالب”، رضي الله عنه، بين يدي النجاشي، حينما سأله “ما هذا الدِّينُ الَّذي فارقتُمْ فيهِ قومَكُم، ولم تدخُلوا في ديني ولا في دينِ أحدٍ من النّاسِ؟ فقال جعفرُ: أيُّها الملِكُ، كنّا أَهْلَ جاهليَّةٍ نعبدُ الأصنامَ، وَنَأْكلُ الميتةَ وَنَأْتي الفواحشَ، ونقطعُ الأرحامَ، ونُسيءُ الجوارَ ويأكلُ القويُّ منّا الضَّعيفَ، حتّى بعثَ اللَّهُ إلينا رسولًا منّا نعرفُ نسبَهُ، وصدقَهُ، وأمانتَهُ، وعفافَهُ، فدعانا لتوحيدِ اللَّهِ وأن لا نُشرِكَ بهِ شيئًا، ونخلَعَ ما كنّا نعبدُ من الأصنامِ، وأمرَنا بصدقِ الحديثِ، وأداءِ الأمانةِ، وصلةِ الرَّحمِ، وحُسنِ الجوارِ، والكفِّ عنِ المحارمِ، والدِّماءِ، ونَهانا عنِ الفواحشِ، وقولِ الزُّورِ، وأَكْلِ مالَ اليتيمِ، وأمرَنا بالصَّلاةِ، والصِّيام، وعدَّدَ علَيهِ أمورَ الإسلامِ، وقال جعفرٌ فآمنّا بهِ وصدقناه”.
ولا شك أن هذه الأمة كالغيث لا ينقطع خيرها وفيها خير كثير، ولا ينبغي لأحد أن يحكم على الأمة جمعاء بفقدها الخلق الحسن، أو الفساد، أو نحو ذلك من الأحكام الجائرة التي تُشعر باليأس والإحباط والقنوط، وليس هذا سبيل المؤمن المتبصر في دينه، قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: (إذا قالَ الرَّجُلُ: هَلَكَ النّاسُ فَهو أهْلَكُهُمْ)، وإنما المؤمن ينبه على الأخطاء، ويعالجها، ويحسن الظن بربه، ولا يقطع الرجاء به، ويتفاءل من أجل إصلاح ما أفسده الآخرون.
ويمكن أن نجمل الوسائل التي تعين على اكتساب الأخلاق وتطبيقها في الحياة العملية في النقاط التالية:
أولًا: تصحيح العقيدة:
فالسلوك ثمرة لما يحمله الإنسان من معتقد، وما يدين به من دين، والانحراف في السلوك ناتج عن خلل في المعتقد، فالعقيدة هي السنة، وهي الإيمان الجازم بالله تعالى، وبما يجب له من التوحيد والإيمان بملائكته وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره، وبما يتفرع عن هذه الأصول، ويلحق بها مما هو من أصول الإيمان، وأكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم أخلاقًا؛ فإذا صحت العقيدة، حسنت الأخلاق تبعًا لذلك.
قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: (أكملُ المؤمنين إيمانًا أحسنُهم خُلقًا).
ثانيًا: المداومة على العبادات:
فالعبادات التي شرعت في الإسلام، واعتبرت أركانًا في الإيمان به ليست طقوسًا مبهمة في النوع الذي يربط الإنسان بالغيوب المجهولة، ويكلفه بأداء أعمال غامضة، وحركات لا معنى لها، كلا، فالصلاة الواجبة عندما أمر الله بها أبان الحكمة من إقامتها، وقال: (وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ).
وقد نص القرآن على الغاية من إخراج الزكاة بقوله: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا).
وقال الرسول صلى الله عليه وسلم، في الصيام: (مَن لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ والعَمَلَ به، فليسَ لِلَّهِ حاجَةٌ في أنْ يَدَعَ طَعامَهُ وشَرابَهُ).
وقال تعالى في الحج (ٱلۡحَجُّ أَشۡهُرٌ مَّعۡلُومَـٰتٌ فَمَن فَرَضَ فِیهِنَّ ٱلۡحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِی ٱلۡحَجِّۗ وَمَا تَفۡعَلُوا۟ مِنۡ خَیۡرٍ یَعۡلَمۡهُ ٱللَّهُۗ وَتَزَوَّدُوا۟ فَإِنَّ خَیۡرَ ٱلزَّادِ ٱلتَّقۡوَىٰۖ وَٱتَّقُونِ یَـٰۤأُو۟لِی ٱلۡأَلۡبَـٰبِ).
ثالثًا: التدريب العملي والرياضة النفسية:
النفس الإنسانية لديها استعدادًا فطريًّا لاكتساب مقدار ما من كلِّ فضيلة خلقية، وبمقدار ما لدى الإنسان من هذا الاستعداد تكون مسؤوليته، ولو لم يكن لدى النفوس الإنسانية هذا الاستعداد لكان من العبث اتخاذ أية محاولة لتقويم أخلاق الناس، والقواعد التربوية المستمدة من الواقع التجريبي تثبت وجود هذا الاستعداد، واعتمادًا عليه يعمل المربون على تهذيب أخلاق الأجيال التي يشرفون على تربيتها، وقد ورد في الأثر: (العِلمُ بالتَّعلُّمِ، والحِلمُ بالتحلُّمِ) ، وثبت أنَّ الرسول، صلى الله عليه وسلم قال: (ومن يستعفِفْ يُعِفَّه اللهُ ومنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللهُ ومنْ يتصبرْ يصبرْهُ اللهُ).
رابعًا: النظر في عواقب سوء الخلق:
وذلك بتأمل ما يجلبه سوء الخلق من الأسف الدائم، والهمِّ الملازم، والحسرة والندامة، والبغضة في قلوب الخلق؛ فذلك يدعو المرء إلى أن يقصر عن مساوئ الأخلاق، وينبعث إلى محاسنها.
فعن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: قيل للنبي، صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله: (إنَّ فلانةَ تقومُ الليلَ وتصومُ النهارَ، وتَصدَّقُ وتفعَلُ، وتؤذي جيرانَها بلسانِها، فقال رسولُ اللهِ صلّى اللهُ عليه وسلَّم: لا خيرَ فيها، هي مِن أهلِ النارِ، قالوا: وفلانةُ تصلِّي المكتوبةَ وتصدوا بأثوارٍ ولا تؤذي أحدًا، فقال رسولُ اللهِ صلّى اللهُ عليه وسلَّم: هي مِن أهلِ الجنةِ).
خامسًا: القدوة الحسنة:
بمعنى أن يكون المربي أو الداعي مثالًا يُحتذى به في أفعاله وتصرفاته، ولأثر القدوة في عملية التربية، وخاصة في مجال الاتجاهات والقيم، كان الرسول، صلى الله عليه وسلم، هو قدوة المسلمين طبقًا لما نص عليه القرآن الكريم، قال تعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا).
وعن معاوية قال: سمعت النبي، صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يَزالُ مِن أُمَّتي أُمَّةٌ قائِمَةٌ بأَمْرِ اللَّهِ، لا يَضُرُّهُمْ مَن خَذَلَهُمْ، ولا مَن خالَفَهُمْ، حتّى يَأْتِيَهُمْ أمْرُ اللَّهِ وهُمْ على ذلكَ).
وبدراسة السيرة النبوية يتم حسن الاقتداء به، صلى الله عليه وسلم، ومعرفة شمائله، فإنها تنبه الإنسان على مكارم الأخلاق، وتذكره بفضلها، وتعينه على اكتسابها، والشمائل: جمع شمال، وهي السجايا والأخلاق التي كان عليها النبي صلى الله عليه وسلم.
فلا يخلو عصر من عصور الأمة المحمدية من طائفة صالحة، تصلح لأن تكون في عصرها قدوة حسنة للأفراد.
سادسًا: التواصي بحسن الخلق:
وذلك ببثِّ فضائل حسن الخلق، وبالتحذير من مساوئ الأخلاق، وبنصح المبتلين بسوء الخلق، وبتشجيع حسني الأخلاق، فحسن الخلق من الحقِّ، والله سبحانه يقول: (وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ).
وكان الرجلان من أصحاب النبي، صلى الله عليه وسلم، إذا التقيا لم يفترقا حتى يقرأ أحدهما على الآخر: سورة العصر، ففيها التواصي بالحقِّ والصبر.
والربح الحقيقي للمسلم أن يكون له ناصحون ينصحونه، ويوصونه بالخير والاستقامة، فإذا حسنت أخلاق المسلم، كثر مصافوه، وأحبه الناس، فعن أبي هريرة، رضي الله عنه، عن النبي، صلى الله عليه وسلم، أنه قال: (المؤمنُ مِرآةُ المؤمنِ، والمؤمنُ أخو المؤمنِ: يكفُّ عليه ضَيعتَه، ويحوطُه من ورائِه).