إن الإنسان في حياته اليومية يواجه أصنافًا عديدة من الإفساد سواء أكان على مستوى الأفراد أم على مستوى الجماعات؛ وقد يكون هذا الإفساد من الإنسان نفسه، أو من إخوانه وعشيرته، أو من مجتمعه، أو من أمته، أو ممن يجاوره، وقد ينشأ الإنسان بين قوم كل ما أمر الله به أن يوصل فهو بينهم مقطوع، وكل فساد في الأرض فهو منهم مصنوع.
والفساد ظاهرة قديمة في الأمم، ولا يكاد يخلو عصر من العصور من هذه الظاهرة، وهو سبب كلّ تخلّف يصيب الأمّة، وسبب لكلّ ما يتلوه من أمراض تطيح بأحلام أبناء الأمّة وشبابها.
كما أنه ظاهرة مركبة ومعقدة، تشمل الاختلالات التي تمس الجانب السياسي والاقتصادي والاجتماعي والقيمي والأخلاقي في المجتمع، والذي يحتاج إلى تضافر الجهود لمعالجته والتخلص منه.
واقع الفساد في مصر
نستطيع بكل بساطة تصنيف ثلاثة أنواع مختلفة من الفساد في مصر:
النوع الأول: هو الفساد التشريعي الذي يتمثل في سعي الهيئات التشريعية إلي تجاوز وقائع الفساد، أو محاباة المفسدين علي حساب جموع الشعب، ومصلحة الخزانة العامة.
النوع الثاني: هو الفساد الإداري المتمثل في تصرفات القطاعات الحكومية المختلفة فيما يتعلق بفتح أبواب إهدار المال العام على مصراعيه، والتهاون في ملاحقته، وعدم محاسبة الفاسدين.
النوع الثالث: هو الفساد الإجرائي الخاص بطبيعة سير العمل الحكومي ووجود فرص، أو إمكانيات لإتاحة الحصول، بدون وجه حق، علي منافع أو زيادة أرباح مستثمر ما، بالاسناد المباشر.
وأُس البلاء في المجتمع المصري هو فساد النظام الحاكم، المتمثل في السيسي، الذي تحول إلى نهج حياة، وإطار لكل مؤسسات الدولة، بطريقة لم يسبقه إليه أحد، وجعل الأولوية لهيمنة القوات المسلحة على كل مقدرات الدولة ومشاريعها القومية، مما يفاقم الأمر سوءًا، وشاركوا الناس أقواتهم وأعمالهم، ونافسوهم في أرزاقهم.
وللأسف أصبح رأس السلطة في مصر، المنقلب على المسار الديمقراطي، يمارس الفساد بكل أشكاله، ويهدر المليارات من أجل نزواته الخاصة، وتدعمه في ذلك آلة إعلامية مأجورة للترويج لما يقوله، وفي الغالب الأعم يقول ما لا يفعل، ويفعل ما يراه في مصلحته هو ومن حوله، دون النظر إلى مصالح الناس وحوائجهم.
آثار الفساد المدمرة
الآثار المدمّرة والنتائج السلبية لتفشّي هذه الظاهرة المقيتة تطال كلّ مقوّمات الحياة، فتهدر الأموال والثروات والوقت والطاقات، وتعرقل أداء المسؤوليات وإنجاز الوظائف والخدمات، وبالتالي تشكّل منظومة تخريب وإفساد وتسبّب مزيدًا من التأخير في عملية التنمية والتقدم ليس على المستوى الاقتصادي والمالي فقط، بل في الحقل السياسي والاجتماعي والثقافي والأخلاقي.
ولعلّ أخطر ما ينتج عن داء الفساد هو ذلك الخلل الّذي يُصيب أخلاقيات العمل والقيم الاجتماعية؛ الأمر الّذي يؤدّي إلى شيوع حالة ذهنية تسبغ على الفرد ما يبرّر الفساد والقيام به، حيث يغيّر الفساد من سلوك الفرد الذي يمارسه، ويجرّه للتّعامل مع الآخرين بدافع المادية والمصلحة الذاتية، دون مراعاةٍ لقيم المجتمع، والتي تتطلّب منه النّظر للمصلحة العامة.
إنّ آثاره المدمّرة على النّواحي السياسية والاجتماعية والاقتصادية؛ تهدّد قوّة ومكانة أيّة دولة في العالم وتضعفها، فالفساد في جوهره حالة تفكّك تعتري المجتمع نتيجة فقدانه لسيادة القيم الجوهرية، ولعدم احترام القانون، وعدم تكريس مفهوم المواطنة.
كيفية مواجة الفساد بكل أشكاله
يتساءل كثير من الناس، أو يجب أن يتساءلوا، كيف نرد هذا الإفساد؟ هناك عدة طرق ومستويات في مواجهة فساد الآخرين، ولكل مستوى طبيعته ووسائله، وهذه المستويات هي:
أولًا: إصلاح النفس وذات البين؛ وموضوعه النفس والعشيرة والمجتمع المحيط بالفرد، وذلك بأن يبدأ الفرد بإصلاح نفسه، وإصلاح ما استُرعي فيه، ثم الأسرة والمجتمع بأن يصلحا ما أفسداه، والإصلاح أيضًا يكون بإصلاح موجبات فساد ذات البين من أسباب نفسية أو مادية، قال تعالى: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ) (هود: 117) أي: لا يهلكهم بمجرد شركهم إذا كانوا مصلحين يعامل بعضهم بعضًا على الصلاح والسداد.
ثانيًا: الدفع بالتي هي أحسن؛ وموضوعه الإفساد الخاص لا العام، وهو منهج الحلم والصفح والعفو، قال تعالى: (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ) (المؤمنون:96)، وهو الصفح عنها والإِحسان في مقابلتها لكن بحيث لم يؤد إلى وهن في الدين، وقد وضع الله للمسلمين قانون رفع الظلم، فقال: (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) (الشورى: 40) يقول ابن كثير: “فشرع العدل وهو القصاص، وندب إلى الفضل وهو العفو، ونهى عن الظلم.
ثالثًا: التعاون بين المصلحين وموالاة بعضهم بعضًا؛ وموضوعه القائمين على الإصلاح باختلاف اتجاهاتهم وأفكارهم، وفي هذه المرحلة دعا الله المؤمنين أن يكونوا يدًا واحدة، وألا يتفرقوا؛ لأن التفرق مآله إلى الضعف والاندثار: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) (المائدة: 2)، وقد حث النبي، صلى الله عليه وسلم، على التعاون والتآلف ونبذ الفرقة وحذّر منها، قال صلى الله عليه وسلم: (الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِه)، وقال أيضًا: (لا تختلفوا فتختلف قلوبكم)، وهذه إشارة من النبي، صلى الله عليه وسلم، إلى الاتحاد وعدم الاختلاف.
رابعًا: الموالاة؛ والموالاة درجة أعلى من التعاون، وهي تعني النصرة في الإصلاح، والنصرة على دفع الإفساد، يقول تعالى: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيم) (التوبة: 71).
وتحت هذا الباب تندرج الأحلاف التي تتعاون على دفع الظلم، وإقامة العدل، كما حدث في حلف الفضول قبل الإسلام، وغيره من الأحلاف بين المؤمنين وغيرهم من أجل دفع عمل من أعمال الإفساد المستشرية في الأرض.
خامسًا: النصيحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ وموضوعه بيئة الإنسان ومجتمعه، فالنصيحة جعلها النبي صلى الله عليه وسلم جماع الدين وكليته، حين قال: (الدين النصيحة، قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم)، فالنصيحة جوهر الدين ولبه؛ إذ بها يقوّم المعوج، ويرد المسيء، والمجتمع سفينة إذا أفسد فيها بعض ساكنيها غرق الجميع، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة؛ فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقًا ولم نؤذ من فوقنا، فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعًا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعًا).
سادسًا: مواجهة الفاسدين، ومنعهم من الإفساد، بكل الوسائل المتاحة، وهي المرحلة الأخيرة من مراحل منهجية التدافع، وكما قال لقمان: آخر الدواء الكي، ويرى الكواكبي في كتابه (طبائع الاستبداد): أن الاستبداد بأشكاله المختلفة: الديني والسياسي والاقتصادي، هو أساس جميع الفساد وأن عاقبته لا تكون إلا الأسوأ.
ومن التجارب الناجحة في مكافحة الفساد، تجربة (سنغافورة)، التي تُعدّ تجربة رائدة في هذا المجال، فقد كانت في ستينيات القرن الماضي من الدول الغارقة في الفساد، أما اليوم فهي من أفضل الدول في مكافحة الفساد، لأنها لم تتسامح مع من يستغل المنصب والنفوذ، فهي تعاملت مع مبدأ (من أين لك هذا؟) مع كل شخصية يثبت عليها ثراء مفاجئ لا يتوافق مدخولها الشهري مع الإمكانات التي تتيحها الوظيفة، ومن خلال هذا المبدأ تم التغلب على الفساد.