د. كمال أصلان – الشرق القطرية
قال اللهُ تعالى: (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ) (آل عمران: 92)
يعني: لن تنالوا وتدركوا البر حتى تنفقوا مما تحبون من أطيب أموالكم وأزكاها؛ فإن النفقة من الطيب المحبوب للنفوس من أكبر الأدلة على سماحة النفس، واتصافها بمكارم الأخلاق، ورحمتها ورقتها، ومن أدل الدلائل على محبة الله، وتقديم محبته على محبة الأموال التي جبلت النفوس على قوة التعلق بها؛ فمن آثر محبة الله على محبة نفسه فقد بلغ الذروة العليا من الكمال، وكذلك من أنفق الطيبات، وأحسن إلى عباد الله، أحسن الله إليه.
فالإيثار أعلى درجات المعاملة مع الناس، ويليه العدل وهو اختصاص كل فرد بحقه، وأسوأ درجات المعاملة الأثرة، والإيثار يرفع المجتمع إلى قمة الأمن، لأن أفراده ارتفعوا عن حظوظهم الدنيوية، وآثر بها كل منهم أخاه، فهو لا يفكر في أن يستوفي حقه كاملاً فضلاً عن التفكير في الأثرة والاستبداد.
قال تعالى: (وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (الحشر: ٩).
قال ابن كثير: “أي: يقدمون المحاويج على حاجة أنفسهم، ويبدؤون بالناس قبلهم في حال احتياجهم إلى ذلك”.
وعن أبى هريرة، رضي الله عنه، أن رجلا أتى النبي، صلى الله عليه وسلم، فبعث إلى نسائه، فقلن ما معنا إلا الماء، فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: (من يضم أو يضيف هذا) فقال رجل من الأنصار أنا، فانطلق به إلى امرأته فقال: أكرمى ضيف رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقالت: ما عندنا إلا قوت صبيانى، فقال هيئي طعامك، وأصبحي سراجك، ونومي صبيانك إذا أرادوا عشاء، فهيأت طعامها، وأصبحت سراجها، ونومت صبيانها، ثم قامت كأنها تصلح سراجها فأطفأته فجعلا يريانه أنهما يأكلان فباتا طاويين، فلما أصبح غدا إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقال (ضحك الله الليلة، أو عجب من فعالكما) فأنزل الله تعالى: (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ) (الحشر: ٩).
وعن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: جاء رجل إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، أي الصدقة أعظم أجرًا؟ قال: أن تصدق وأنت صحيح شحيح، تخشى الفقر وتأمل الغنى، ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت: لفلان كذا، ولفلان كذا، وقد كان لفلان.
ولم يعرف تاريخ البشرية كله حادثًا جماعيًا كحادث استقبال الأنصار للمهاجرين بهذا الحب الكريم، وبهذا البذل السخي، وبهذه المشاركة الرضية، وبهذا التسابق إلى الإيواء واحتمال الأعباء، حتى ليروى أنه لم ينزل مهاجر في دار أنصاري إلا بقرعة لأن عدد الراغبين في الإيواء المتزاحمين عليه أكثر من عدد المهاجرين!
وللإيثار فوائد عظيمة وثمار جليلة يجنيها أصحاب هذا الخلق العظيم؛ منها:
دخولهم فيمن أثنى الله عليهم من أهل الإيثار، وجعلهم من المفلحين، والإيثار طريق إلى محبة الله، تبارك وتعالى، وتحقيق الكمال الإيماني؛ فالإيثار دليل عليه، وثمرة من ثماره، والتحلي بخلق الإيثار فيه اقتداء بالنبي، صلى الله عليه وسلم، وأن المؤثر يجني ثمار إيثاره في الدنيا قبل الآخرة، وذلك بمحبة الناس له وثنائهم عليه، والشعور بالرضا وطمأنينة النفس، كما أنه يجني ثمار إيثاره بعد موته بحسن الأحدوثة وجمال الذكر، فيكون بذلك قد أضاف عمرًا إلى عمره، والإيثار يقود المرء إلى غيره من الأخلاق الحسنة والخلال الحميدة؛ كالرحمة، وحب الغير، والسعي لنفع الناس، كما أنه يقوده إلى ترك جملة من الأخلاق السيئة والخلال الذميمة؛ كالبخل والشح، وحب النفس، والأثرة والطمع، وغير ذلك، والإيثار جالب للبركة في الطعام والمال والممتلكات، ووجود الإيثار في المجتمع دليل على وجود حِسّ التعاون والتكافل والمودة، وفقده من المجتمع دليل على خلوه من هذه الركائز المهمة في بناء مجتمعات مؤمنة قوية ومتكاتفة، وبالإيثار تحصل الكفاية الاقتصادية والمادية في المجتمع؛ فطعام الواحد يكفي الاثنين، وطعام الاثنين يكفي الثلاثة، والبيت الكبير الذي تستأثر به أسرة واحدة مع سعته يكفي أكثر من أسرة ليس لها بيوت تؤويها، وهكذا.