د. جمال نصار – عربي21
برزت في العقود الماضية، وزادت بشكل كبير وفجّ في السنوات الأخيرة، ظاهرة تقليد الغرب في كل شيء، حتى في المأكل، والمشرب، والملبس، والمظهر، وهذا دفع الكثير منّا لترك الثوابت التي تربينا عليها، والأخلاق التي يجب أن نتمثلها كمسلمين، ومن ثمّ حلّت كل التقاليد الغربية محل العادات والتقاليد الإسلامية، وأصبحنا نتهاون في تطبيق أخلاق الإسلام في معظم حياتنا، إن لم يكن كلها.
وحقيقة الأمر أن العالم الإسلامي يعاني في هذا الزمن من ظاهرة الانبهار بما لدى الغرب، في كل شيء، ما كان منه مفيدًا، وما ليس فيه أي فائدة، بل ربما يؤثر بالسلب على حقيقة وجوهر الإسلام، كما أننا نعاني من ظاهرة التخلف المفروض علينا.
فلو تأملنا، على سبيل المثال، فيما يحدث في السودان من تناطح بين العسكريين، والسعي لتدمير البلد كليةً، نعلم أنه لا يُراد لهذه الأمة أن تنهض. فالسودان مشهورة بخصوبتها حتى قيل إن السودان من الممكن أن تكون سلة للعالم، بمعنى أنه لو تمّ استغلال مواردها بشكل سليم، لما عانت المنطقة العربية من نضوب المواد الغذائية أو قلّتها، بل تمّ التصدير للعالم كله.
كما أن العالم الإسلامي يعاني، أيضًا، من تكالب أعداء الإسلام عليه، كما يعاني من جهل أبنائه وكيد أعدائه وحلول الكوارث والانهزامات على أيدي المتآمرين عليه، سواء من داخله أو من خارجه، وكما أخبر النبي الكريم، صلى الله عليه وسلم (يُوشكُ أن تَداعى عليكمُ الأممُ كما تَداعى الأكلَةُ إلى قصعتِها)، وصارت كثرة المسلمين لا تُفرح كثيرًا بعد أن أصبحوا غُثاءً كغثاء السيل حين صاروا يتكففون الشرق والغرب يستمدون منهم قوانين معيشتهم ويطبقون أفكارهم ويُحكمون دساتيرهم الوضعية فصار حالهم كحال العيس التي أخبر عنها الشاعر بقوله:
كالعيس في البَيْداء يقتلُها الظما * والماء فوق ظهورها محمولُ
أو كالغراب الذي أراد أن يقلِّد مشية الحمامة فلم يفلح في تقليدها ولا في البقاء على مشيته، فكثير من المسلمين لا هم بَقوْا على دينهم يعتزون به ويفتخرون بالانتماء إليه، ولا هم وصلوا إلى ما وصل إليه غير المسلمين من التقدم المادي، فكانت النتيجة أنهم خسروا دينهم ودنياهم فعادوا باللائمة على الإسلام، وهي حجة الكاذب المنقطع، ومن العجيب أنهم يحكمون على الإسلام وهم لا يُحكِّمُونَه، ويتهجمون عليه وهم لا يعرفونه، ومعظمهم لم يجربوه في حياتهم اليومية، ولعل ما يحدث في عالمنا العربي والإسلامي غير شاهد على ذلك.
التقليد الأعمى وتتبع خطى الغالب
التقليد الأعمى، هو: أن يقلد الإنسان إنسانًا آخر في معتقده، أو عبادته، أو سلوكه وأعماله وأقواله، دون علم، أو حق، أو بصيرة، أو دليل.
ولذلك نهى القرآن عن هذا التقليد، وذمّ أصحابه، وبيّن خطورته على الأفراد والمجتمعات في الحياة الدنيا والآخرة، قال تعالى: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ)) البقرة: 170).
ومن أبرز الأمثلة على ذلك ما حدث مع نبي الله إبراهيم، عليه السلام، لما دعا قومه إلى توحيد الله، وعبادته، وسألهم عن هذه الأصنام التي يعبدونها من دون الله (مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ)، كان ردهم: أنهم هكذا وجدوا آبائهم يفعلون، (وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ)، وكان تعقيبه عليه السلام بقوله: (لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (الأنبياء: 53 – 54).
ولقد تحدّث ابن خلدون المتوفى عام (808ه) منذ أكثر من ستة قرون عن معضلة تبعية المغلوب للغالب، حيث عنون الفصل الثالث والعشرون من مقدمته بقوله: “في أن المغلوب مولع أبدًا بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيه ونحلته وسائر أحواله وعوائده”. وهذا يمكن أن نطلق عليه حالة الانهزام الحضاري التي وصل إليها العالم العربي والإسلامي في وقتنا الحالي.
وإذا نظرنا إلى واقع العالم العربي، نجد أن اللغة السائدة والمهيمنة هي اللغات الغربية، سواء كانت إنجليزية أو فرنسية، أو غير ذلك، حتى أنه يقاس عِلم الشخص وتميّزه بمدى جودته للغات الأجنبية، فأصبحنا كرهائن عند الغرب حتى على مستوى اللغة، على الرغم من أن اللغة العربية كانت لغة العالم عندما كنا سادة العالم في النهضة، والعلم، والمعرفة.
وهذا لا يعني، بطبيعة الحال، ألّا نتعلم لغة الآخرين، ولكن حديثي وتعليقي على حالة الانهزام والتبعية الكلية لكل ما جاء به الغرب، مع إهمال ثوابتنا ولغتنا، وعدم إعطائها المكانة اللائقة بها، فوصلنا إلى مرحلة التطبيع الثقافي مع كل ما يتقبّله الغرب، وإن خالف الإسلام وفطرة الإنسان، وهذا يشير إلى تحكّم عقدة النقص عند الكثير منّا.
ومن ينظر إلى واقع وحياة المسلمين اليوم يجد أن من أسباب المشاكل والصراعات الحادثة في عالمنا أننا تبعنا الغرب في كل شيء وهجرنا أخلاقنا وسلوكياتنا، وأصبح الكثير من أعمالنا وسلوكياتنا، ما هو إلا تقليد لغيرنا.
ويمكن القول إن التقليد الأعمى أدى إلى كل هذه المآسي التي تعاني منها أمتنا على مستوى الأفراد والشعوب والدول، وضاع الحق وتحكّمت الأهواء، وأُهدرت القيم والمبادئ، وأصبحنا منهزمين أمام كل ما هو غربي.
وللأسف لم نأخذ أجمل ما عندهم، وأفضل ما لديهم، حتى في أمور الحياة، ووسائل الحضارة التي وصلوا إليها، وما يمكن أن ننتفع به، ولذلك لم نعد أمة منتجة كما كانت أمتنا عبر قرون من الزمان، يستفيد من عطائها وإنتاجها العالم، وأمم الأرض، من حولها، فأصبحنا أمة مستهلكة في جميع نواحي الحياة، بسبب التقليد، والتبعية لغيرنا.
ولم نستفد في حقيقة الأمر من وحدتهم وتعايشهم، واحترامهم لبعضهم البعض، والتزامهم بالقانون والمؤسسات، ونبذهم للحروب والعنف، والتي أدركوا خطرها على مجتمعاتهم، بعد تضحيات كبيرة، وحروب أدركوا خطرها وآثارها على شعوبهم وبلدانهم.
علينا إذن أن نعود إلى أنفسنا ونحدد سبب المشاكل الحقيقية التي تمر بها أمتنا، ونجتهد في حلها، وخصوصًا ما هو متعلق بالجانب الأخلاقي، قبل أن ينهار الشباب، ويقعوا فريسة الانحلال الذي يريده الغرب لنا من إلحاد وشذوذ جنسي، وغير ذلك مما نراه ماثلًا أمام أعيننا في العالم الغربي، وبدأ يتسرب إلى عالمنا العربي والإسلامي.