د. جمال نصار
اندلعت الثورات العربية في كل من تونس، ومصر، واليمن، وليبيا، وسوريا؛ من أجل الحرية، والعيش الكريم، والعدالة الاجتماعية، والكرامة الإنسانية، وتبعها بعد وقت انتفاضات السودان، ولبنان، والجزائر، لأن الشعوب تغار، وتريد أن تتخلص من قبضة الاستبداد الذي جثم على صدورها لعقود عديدة. هذا الاستبداد الذي نهب خيرات البلاد، وأذلّ العباد، ونشر منظومة الفساد التي قضت على الأخضر واليابس من مقدرات الدول.
ولكن حدث ما لم يتوقعه الذين أشعلوا فتيل هذه الثورات، وقامت الثورة المضادة بالتمترس في مواجهة تلك الاحتجاجات حتى بعد أن تسلم الإخوان المسلمون السلطة في نموذج مصر، ولم يهدأ أنصار الثورة المضادة إلا بعد الانقلاب على المسار الديمقراطي باستخدام وزير الدفاع وقتئذ عبد الفتاح السيسي، الذي انقلب على رئيسه محمد مرسي، يرحمه الله، وشنّ حملة اعتقالات غير مسبوقة في صفوف الإخوان المسلمين، وقام بالعديد من المجازر في حق المتظاهرين والمعتصمين المصريين، ولم يستقر له بال إلا بعد أن قتل الرئيس مرسي، والعديد من قيادات الإخوان في السجن نتيجة للإهمال الطبي، وسجن عشرات الآلاف من الإخوان، وكل من يعارضه في سياساته.
ولم تبتعد باق الدول الأخرى عن هذا السياق، فاليمن تدخلت فيها السعودية والإمارات وأشعلت نيران الحرب التي لا تزال لهيبها مستمرة، مما أدى لتحويل اليمن إلى دولة تعاني من كوارث متوالية. والنموذج الليبي تحول إلى نزاع مسلّح بين شرقي ليبيا وغربها، ولا تزال الأمور تراوح مكانها على الرغم من الحراك السياسي الحادث الذي يأمل الجميع أن يؤدي إلى إجراء انتخابات في نهاية هذا العام للخروج من المأزق المصطنع.
أما سوريا فتحولت إلى حرب بالوكالة تدخلت فيها قوى دولية وإقليمية، مما زاد من مآسيها، وأصبحت روسيا المتحكمة في المشهد السوري بدرجة كبيرة، بالإضافة إلى إيران، ناهيكم عن ممارسات النظام السوري الذي قتل مئات الآلاف، وهجّر الملايين في العديد من الدول!
وفي المجمل نجد أن الغرب، وما يُسمى بالمجتمع الدولي لا يتحرك إلا إذا صبّ ذلك بشكل مباشر في مصلحته، فوجد أن الأنظمة المستبدة عونًا له في التمكين من خيرات الدول. ومن ثمّ وجدنا النفاق الواضح في حالة مصر، بالسكوت على الانقلاب العسكري، لأنه أبعد الإسلاميين عن سدة الحكم، وبالمثل في تونس. أما في السودان فالأمر مختلف، فالذي تصدّر المشهد الأحزاب والقوى اليسارية والعلمانية، وتم إبعاد الإسلاميين، ومن ثمّ يتحرك الغرب لإرجاع الأمور إلى ما كانت عليه قبل الانقلاب العسكري في الخامس والعشرين من أكتوبر/تشرين الأول من هذا العام!
ممارسات قيس سعيد الشعبوية لخديعة التونسيين
كُنّا نظن أن تونس، التي أشعلت ثورة الياسمين، نجت من تلك المؤامرات التي حدثت في الدول سالفة الذكر، ولكن لم تهدأ الإمارات العربية المتحدة، ومعها المملكة العربية السعودية، إلا بالقضاء على البقية الباقية من الثورات العربية، وبالأحرى القضاء على بقايا الإسلام السياسي، الذي تُكنّ له الإمارات العداء التاريخي، منذ أن تولى أولاد زايد مقاليد الأمور.
وأتى قيس سعيد رئيسًا لجمهورية تونس في الانتخابات الرئاسية الأخيرة، من خارج الأحزاب السياسية، وظن التونسيون أنهم بهذا الاختيار يبتعدون عن المناكفات الحزبية والسياسية التي أدت إلى العديد من الأزمات، ولكن استطاع أولاد زايد استخدام سعيد للانقضاض على المسار الديمقراطي في تونس.
وبدأت الأزمة في 25 يوليو/ تموز 2021 حينما أقال الرئيس التونسي قيس سعيد رئيس الحكومة هشام المشيشي، وعلّق أنشطة مجلس النواب من خلال التذرّع بصلاحيات الطوارئ الاستثنائية المشار إليها في الفصل 80 من الدستور التونسي، وجاءت هذه القرارات ردًا على سلسلة من الاحتجاجات ضد حركة النهضة، والأزمات الاقتصادية والصحية التي ضربت بالبلاد، نتيجة لانتشار كوفيد 19 بشكل كبير.
وفي الحقيقة لم تكن تلك الأزمات هي الدافع الحقيقي لقرارات قيس سعيد التي عارضها معظم القانونيين والسياسيين في تونس، وأدت هذه الممارسات إلى تأزم المشهد التونسي، وسمح للفاعلين الخارجيين من أنصار الثورة المضادة بالتدخل في الشأن التونسي، سواء من مصر أو الإمارات.
ومن ثمّ تحولت تونس بسبب ممارسات سعيد إلى ساحة عراك كلامي لا ينتهي، وأصبح مألوفًا إلى يخرج من حين لآخر الرئيس التونسي، مخاطبًا الشعب التونسي والعالم عن محاربته للفساد، وتتبع المفسدين، حسب زعمه.
ولكن الصورة تشي بأن المسألة يراد من ورائها إبعاد الإسلاميين، وكل السياسيين عن المشهد، بحجة أن الرئيس سيعقد حوارًا مع الشباب، وأصحاب الأيادي النظيفة، ومن ثمّ تجمّعت كل السلطات في يده، وتكلّست الحياة السياسية، على الرغم من المناداة الخجولة من الغرب باستعادة المسار الديمقراطي.
مكر العسكر في السودان للانقضاض على الحكم
لم يدم طويلًا الوفاق بين المكون العسكري والقوى المدنية في السودان، بعد الإطاحة بالبشير في 11 أبريل/ نيسان 2019، وإبعاد الإسلاميين بشكل عام عن السلطة، بعد انتفاضة الشعب السوداني، وتصدّر المشهد قوى علمانية ويسارية. ومع ذلك لم يرد العسكر أن تستمر الأمور على هذا الشكل، فقام عبد الفتاح البرهان بالانقلاب العسكري فجر الاثنين 25 أكتوبر/ تشرين الأول 2021، واعتقل العديد من الوزراء والقيادات السياسية، على رأسهم رئيس الوزراء عبد الله حمدوك، الذي أُفرج عنه لاحقًا بعد الضغوط الدولية، ووضعه تحت الإقامة الجبرية.
وأعلن قائد الجيش الجنرال البرهان، حل مجلسي السيادة والوزراء الانتقاليين، وتعهد بتشكيل حكومة كفاءات مستقلة، وأعلن حالة الطوارئ في البلاد وإقالة الولاة، وعدم الالتزام ببعض بنود الوثيقة الدستورية لعام 2019 والخاصة بإدارة المرحلة الانتقالي، مما وضع البلاد على سكة غامضة وينذر في حال اختارت القيادة منعطفًا سلطويًا، في أن يأخذ بالخرطوم إلى حالة من عدم الاستقرار والتأرجح الأمني والاقتصادي.
ولكن الشعب السوداني في مجمله لم تعجبه تحركات البرهان، وخرج في مظاهرات مليونية في 30 أكتوبر/ تشرين الأول 2021، محاولًا الضغط على العسكر للعودة إلى المسار الديمقراطي. وفي المقابل يحاول البرهان أن يفرض حكومة بالقوة وأن يقمع التظاهرات، وهذه الاستراتيجية في الغالب لن تحقق الدولة الحديثة المزدهرة، ولن تؤدي إلى انتخابات نزيهة، وستدفع بالسودان إلى أتون التجاذبات بين المدنيين والعسكر.
هذا الوضع المتدهور في السودان والتباعد في المواقف بين الفرقاء، قد يجعل الجيش أمام ثلاثة سيناريوهات، فإما أن يتنازل عن كل إجراءاته الأحادية، أو يتخذ مزيدًا من القرارات للهيمنة أكثر على السلطة.
أما السيناريو الثالث، فهو أن يفتح الباب أمام حوار ربما يتجاوز مطالب العسكر السابقة بحل مجلسي الوزراء والسيادة إلى تعديل الوثيقة الدستورية الخاصة بتقاسم السلطة، والموقعة بين المجلس العسكري الحاكم آنذاك والمعارضة المدنية.
وثمة توقعات بأن أي قرارات يتخذها البرهان خلال الأيام المقبلة، ستهدف إلى تخفيف حدة التوتر مع قوى “إعلان الحرية والتغيير” وحمدوك، حتى تنال هذه القرارات، ولو جزئيًا، رضا المجتمع الإقليمي والدولي.
لكن ما يرضي المجتمع الدولي، هو العودة إلى الوثيقة الدستورية والمسار الانتقالي، قد لا يرضى الشارع أو قوى “إعلان الحرية والتغيير”، التي صارت ترى في البرهان شريكًا غير مأمون على انتقال البلاد بعد حقبة عمر البشير (1989-2019).
لكن هذا سيدفع إلى تصعيد أكبر من جانب المجلس المركزي لقوى “الحرية والتغيير” والشارع، ولا محالة ستقع القطيعة مع المجتمع الدولي، مع انتظار عقوبات وعزلة دولية وتوقف الدعم المالي لبلد يعاني أزمة اقتصادية حادة كانت أحد أبرز دوافع الإطاحة بالبشير.
المخرج من أتون الاستبداد
لا شك أن الأنظمة المستبدة تحاول بشتى الطرق تغييب الشعوب، والسيطرة على مقدرات الدول، وخصوصًا في المنطقة العربية، ولا يمكن التعويل على الغرب الذي يسعى لمصالحه، ويدِّعي من حين لآخر أنه يدافع عن الحريات والديمقراطية، ولكنه في الحقيقة يساند العديد من الأنظمة الديكتاتورية التي تحقق مصالحه، ومن ثمّ على الشعوب أن تنهض، وتعرف الدور المنوط بها لإزاحة كل مظاهر الاستبداد في تلك الدول. وهذا لن يكون إلا من خلال:
أولًا: النضال المستمر بكل الوسائل لإزاحة المستبدين، ومنظومات الفساد في العالم العربي، وهذا لن يتأتى إلا بالدعوة إلى الخروج على تلك الأنظمة، بالطرق السلمية، والعصيان المدني، والإضراب العام. فما ضاع حق وراءه مطالب.
ثانيًا: التوافق بين القوى المجتمعية الحية، والأحزاب السياسية التي تؤمن بالديمقراطية في كل بلد على حدة على الحد الأدنى من المشتركات، وأظن أنها كثيرة، مع مخاطبة الجماهير بما يفهمونه، والسعي الحثيث لتحقيق آمال وطموحات الشعوب المقهورة تحت نير الاستبداد.
ثالثًا: رفع منسوب الوعي لدى بسطاء الجماهير من خلال وسائل الإعلام التي تمتلكها قوى التغيير في المنطقة العربية، مع تفعيل وسائل التواصل الاجتماعي للوصول إلى فئات الشباب المنوط بها التغيير في المستقبل، والتأكيد على أن الحكم العسكري يؤدي إلى دولة فاشلة في كل الميادين.
رابعًا: مخاطبة المنظمات والهيئات الدولية الحقوقية والإنسانية، لفضح تلك الأنظمة المستبدة التي تقهر شعوبها، وتهدر مقدراتها، بشتى الطرق والوسائل، مع ذكر تلك الانتهاكات بالأرقام والصور.
خامسًا: يجب عدم الاعتماد فقط على الأنظمة والحكومات الغربية في تحقيق الحرية والديمقراطية لشعوبنا العربية، فباستقراء التاريخ نجد أن هذه الأنظمة لا تسعى إلا إلى مصالحها فقط، ولا تريد لمنطقتنا التقدم والازدهار، وكما قيل: ما حك جلدك مثل ظفرك فقم أنت بجميع أمرك.
أعلم أن المسألة ليست سهلة، ولكن ما تأخر من بدأ، ولا بد أن يعلم الجميع أن الحرية لا توهب، ولكنها تنتزع، وكلما سكتت الشعوب، وانقادت لتلك الطغمة الحاكمة المستبدة فسوف يكون الثمن غاليًا، والتكاليف باهظة على الشعوب، ومستقبل الدول، فلم يجلب الجنرالات على دولهم سوى الفقر، والقهر، والانهيار.
وكما قال الشاعر التونسي أبو القاسم الشابي: ومن يتهيب صعود الجبال يعش أبد الدهر بين الحفر.