د. كمال أصلان – مدونة العرب
لا بد أن نعلم، ونعي أن هذا الكون لا يسير جزافًا، ولا يتحرك اعتباطًا، بل كل شيء فيه بقدر، وكل حركة فيه وفق قانون، وهو الذي يسميه القرآن: سنة، سواء أكانت سنة كونية أم اجتماعية. وأن هذه السنن ثابته لا تتبدل ولا تتحول، وأنها تجري على الآخِرين كما جرت على الأولين، وأنها تتعامل مع أهل الإيمان كما تتعامل مع أهل الكفر: (فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا) (فاطر: 43).
والتغيير لن يكون إلا بدراسة الأسباب التي أدت إلى زوال حضارتنا، وذلك كله في ضوء القرآن الكريم مع الاستعانة بأحاديث النبي العظيم، صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُم( (محمد: 7).
ويجب على المسلمين أن يفقهوا قانون الله في التغيير، فهو لا ينزع نعمة أنعمها على قوم حتى يكون منهم الإفساد والمعاصي، فإذا نزع سبحانه تلك النعمة، فلن تعود إلا بالرجوع إليه، عزوجل، حسب سننه في الكون؛ وسنن الله لا تحابي أحدًا، فأيما قوم أخذوا بأسباب النجاح في الدنيا كُتب لهم.
وإذا تمّ الرجوع الحقيقي من المسلمين إلى الله، سبحانه تعالى، كان التمكين لهم: )إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ( (الرعد: 11)، ذلك أن الله استخلفنا في الأرض لنقوم بعمارتها بالعدل، والحق، والعمل الصالح )هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ( (هود: 61).
فمن بدّل نعمة الله كفرًا جرى عليه قانون الاستبدال، وهذه سنة الله في التغيير التي ينبغي على كل مسلم أن ينطلق منها، ويجعلها أساس كل إنجازه الفكري، ويتخذ من قوله تعالى (إن الله لا يغير..) قانونًا للتغيير بكل مستوياته، حتى يصل بالأمة إلى هدفها، وهو التمكين لدين الله في الأرض، ويبحث في وقائع التاريخ؛ ليؤكد للعالم أجمع، وللعقل المسلم بصفة خاصة، أن الله تعالى يعلمنا بها، وآيات القرآن كلها أن التغيير يخضع لسنن ربانية علينا أن نكتشفها ونوظفها في بنائنا الحضاري بكل مستوياته.
بهذا يستطيع الإنسان أن يحقق نصرة الله، ومن حقق نصرة الله، عز وجل؛ بالالتزام بهذا الدين، ونشره، وتعليم الناس إياه، وبذل النفس، والنفيس في سبيل إعلاء كلمته، بالجهاد والموت في سبيله، عندئذ يتحقق وعد الله الذي وعده عباده المؤمنين )وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ، وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ( (النور55: 56).
ذلك وعد الله للذين آمنوا، ووعد الله حق لن يتخلف، لكنه لا يتحقق إلا للذين آمنوا، والإيمان المقصود هنا هو الإيمان الذي يستغرق الإنسان كله، بخواطر نفسه، وخلجات قلبه، وأشواق روحه، وميول فطرته، وحركات جسمه، ولفتات جوارحه، وسلوكه مع ربه في أهله ومع الناس جميعًا.
فالإيمان بهذا المعنى جهاد حقيقي، بمفهومه الكبير وفضائه الواسع، وهذا الجهاد هو سبيل الهداية إلى السنن الإلهية والقوانين الربانية، وهو من أخص شروط الحضور الميداني وممارسة الفعل الحضاري )وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ((العنكبوت: 69).
والنفرة لهذا الجهاد الكبير، ومعرفة الواقع بكل مكوناته، ومحاولة تحليله، وإرجاعه إلى عوامل نشوئه، وأسباب علله هو من الفروض الحضارية التي تمنح الفقه والهداية والعبرة، وتقي الأمة من الإصابات )قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ( (آل عمران: 37-38).
فهذا النص صريح في الدعوة إلى الانفتاح على المجتمعات الأخرى، والاستفادة من تجاربها الذاتية؛ لأن هذا السير يُعد مصدرَ معرفةٍ حضارية، وهو، بهذه الآية، من عطاء الوحي أيضًا، ولا بد من معيار دقيق يحكم هذا السير، حتى لا يكون الذوبان في عقائد غيرنا الفاسدة، وإذا تم هذا السير وفق معايير القرآن الكريم كان الهدف من التبادل المعرفي، وهو إغناء التجربة الذاتية من خلال الفضاء الحضاري.
ومن ثمّ علينا أن نفقه، ونعي قوانين التغيير كما أرادها الله، عز وجل، ونسعى بكل الوسائل المتاحة لتطبيقها في حياتنا العملية، حتى نعود إلى سابق عهدنا في تفوقنا الحضاري، وتميزنا الأخلاقي، وتقدمنا المعرفي.