د. كمال أصلان – الشرق القطرية
الله تبارك وتعالى شرع للأمة فريضة الحج، من أجل غايات عظيمة، وأهداف سامية لبناء الإنسان المسلم بناءً صحيحًا متكاملا، يفيده في الدنيا وينفعه في الآخرة، هذه الفريضة التي يخرج منها الإنسان كما ولدته أمه، طاهرًا مُطهرًا من الذنوب والمعاصي، ومن أهم مقاصد الحج وغاياته:
أن الله جعله عبادة توقيفية فلا اجتهاد فيها مع النصوص الشرعية فهي حق لله، عز وجل، لا حق لأحد فيها، فهو المشرع لهذه العبادات وحده كما قال تعالى (أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ). ولا حق لأحد أن يُغيّر أو يُبدّل ما شرعه الله، وهذا يغرس في النفس صدق العبادة وإخلاصها لله، عز وجل، وكمال التسليم لأمره، وأن الشرع ما شرعه الله لا تلك البدع والضلالات التي هي من صنع البشر.
والحج تربية للمسلم على التوازن في حياته اليومية؛ فالإسلام دين عدل، ووسطية حتى مع حقوق المسلم على نفسه، فالإسلام لا يأمر بأمر فيه ضرر، أو إجحاف، بل كل أوامره، ونواهيه تصًب في مصلحة من ينتمي إليه، يقول الله تعالى (لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ)، فالحج يجمع بين مصالح الفرد الدنيوية من بيع وشراء، وغيرها، وبين مقاصد هذه العبادة من ذكر، وصلاة، ودعاء وغير ذلك. وهذا يدلنا على أن الإسلام ما منع من شيء إلا وأباح أشياء أخرى، وهذه هي عين مراعاة حاجات الإنسان.
والحج يحقق مبدأ المساواة؛ حيث يجتمع المسلمون من كل جنس، ولغة، ولون، ووطن في صعيد واحد لباسهم واحد، وعملهم واحد، ومكانهم واحد، ووقتهم واحد، وحدة في المشاعر، ووحدة في الشعائر، وحدة في الهدف، ووحدة في العمل، ووحدة في القول.
والحج يعود الإنسان على الخشونة وصعوبة العيش، حيث يمنع نفسه من الترف الذي كان قد اعتاد عليه قبل إحرامه، ويحرم نفسه من مباحات كان يتمتع بها قبل أن يهل بحجه، مثل الطيب، وحلق الشعر، والصيد، وغيرها من محظورات الإحرام، ليعتاد المسلم على الصبر وشظف العيش وشدته. كما أن كثرة العدد في مكان مزدحم ضيق والتنقل بين المشاعر مع البعد والمشقة كل ذلك لتعويد النفس على تحمل الصعوبات.
والحج يُؤصِّل معنىً مهمًا في قلب كل حاج، فمنذ شروع الحاج في بداية الحج بلبس ملابس الإحرام، وهو يؤكد في نفسه صلته بالله وحده، ومرجعه إليه، وأن لا معبود سواه يُعبَد بحق، فله يصرف جميع العبادات، وإليه يتقرب بجميع الطاعات والقربات. وإذا تأملنا باقي المناسك من طواف، وسعي، ووقوف بعرفة، ورمي الجمار، وغيرها لوجدناها تؤكد ذلك المعنى، وتؤكد حقيقة قول الله تعالى (قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ). ولترسيخ عقيدة التوحيد كان شعار الحج (لبيك اللهم لبيك) شعار التوحيد.
وفي الحج يتحقق التعارف؛ ذلك المعنى الرفيع كما أخبر الله بذلك فقال تعالى (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)، وإن اختلفت اللغات والأوطان والمشارب، فالتعارف من أكبر أسباب الألفة بين أهل الإسلام.
كما أن الحاج حينما يلبس ملابس الإحرام الذي يشابه تلك الأكفان التي يكفّن بها الميت ليلحد في قبره، وهذا تذكير له بالموت واليوم الآخر، ومن ثمّ يكون الإنسان على وعي تام بالحساب وما بعده، ولا ينشغل بالملهيات في الدنيا. ومن أبرز ما يجنيه الحاج، أيضًا، من حجه الدوام والاستمرار في العبادة بعد الحج، وهو علامة على قبول العمل.