د. كمال أصلان – الشرق القطرية
إن ما يحدث اليوم في قطاع غزة ليس مجرد حدث طارئ، أو أزمة عابرة، بل هو جرح متجدد في ضمير الإنسانية بأكملها، حيث تُرتكب جرائم ممنهجة، وانتهاكات صارخة للقانون الدولي، ولأبسط حقوق الإنسان على مرأى ومسمع من العالم أجمع. تتكرر المجازر، ويُقصف الأطفال، والنساء، والشيوخ دون تمييز، وتُهدم البيوت فوق رؤوس ساكنيها، ويُحاصر المدنيون في ظروف لا إنسانية، ومع كل ذلك يبقى الموقف العالمي بين الصمت المُخجل والتنديد البارد الذي لا يرقى إلى مستوى المسؤولية الأخلاقية والإنسانية.
ازدواجية المعايير الدولية
العالم اليوم يشهد ازدواجية واضحة في تعامله مع القضايا الإنسانية والعدالة الدولية، ففي حين يتسابق المجتمع الدولي لفرض عقوبات صارمة وتحركات دبلوماسية واسعة ضد دول أو شعوب معينة تحت ذرائع حقوق الإنسان، نرى صمتًا مريبًا، وتغاضيًا غير مبرر عن الجرائم المرتكبة بحق الشعب الفلسطيني. إن هذا الصمت ليس فقط تواطؤًا مع الاحتلال الإسرائيلي، بل هو مشاركة غير مباشرة في هذه الجرائم.
كثير من الدول الكبرى، التي تتغنى بالحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، تُقدّم الدعم الكامل لإسرائيل سياسيًا واقتصاديًا وعسكريًا، ما يمنحها غطاءً دوليًا للاستمرار في ارتكاب المزيد من الجرائم دون خوف من المحاسبة؛ فمجلس الأمن، الذي يُفترض أن يكون الحارس الأول للأمن والسلام الدوليين، قد تحول إلى مسرح للعرقلة والفيتو كلما اقترب الأمر من إدانة إسرائيل، أو محاسبتها.
ولا يمكننا في ذات الوقت أن نتجاهل الدور الذي يلعبه الإعلام العالمي في تشكيل الرأي العام وتوجيهه، فالإعلام الغربي، في معظمه، يتبنى سرديات منحازة ويغض الطرف عن معاناة الفلسطينيين، بل في كثير من الأحيان يصور المعتدي كضحية. هذا الانحياز يُعمّق الهوة بين ما يحدث على أرض الواقع وما يراه العالم، مما يساهم في استمرار المأساة دون ضغط شعبي كافٍ لوقفها.
ولكن مع ذلك، فإن دور الإعلام البديل، الذي يتبناه ناشطون وصحفيون مستقلون عبر وسائل التواصل الاجتماعي، أصبح منارةً لكشف الحقيقة ونقل أصوات الفلسطينيين إلى العالم أجمع.
متى تتحرك الشعوب لإنقاذ المستضعفين؟
إن الشعوب قد تكون أكثر وعيًا وحساسية تجاه ما يحدث مقارنة بالحكومات التي تتأرجح مصالحها بين التحالفات الدولية والضغوط السياسية. ومع كل مأساة جديدة في غزة، نشهد مظاهرات ووقفات احتجاجية في مختلف دول العالم، حيث يخرج الملايين من أحرار الشعوب ليُعبروا عن غضبهم، ورفضهم للعدوان الإسرائيلي، ووقوفهم إلى جانب المستضعفين.
غير أن هذه التحركات الشعبية، رغم رمزيتها الكبيرة، لا تزال تفتقر إلى الفاعلية اللازمة لإحداث تغيير حقيقي على الأرض، فالمظاهرات وحدها لا تكفي إذا لم تترافق مع خطوات عملية مثل الضغط الاقتصادي عبر المقاطعة الشاملة للمنتجات الإسرائيلية والدول الداعمة لها.
لقد أثبت التاريخ أن الشعوب حينما تُقرر التحرك بقوة وحزم، تستطيع قلب الموازين، لكن هذا يتطلب إرادة جماعية، واستمرارًا في النضال على مختلف المستويات.
إن المأساة في غزة ليست مجرد معركة عسكرية، بل هي صراع وجودي بين الحق والباطل، بين مقاومة شعب يناضل من أجل حريته وكرامته، وقوة احتلال لا تتورع عن استخدام أقسى أنواع البطش والقمع.
الدور المطلوب والفاعل لنصرة فلسطين
على الحكومات العربية والإسلامية أن تخرج من دائرة البيانات الشكلية إلى مواقف أكثر جرأة وفاعلية، عبر الضغط في المحافل الدولية، وتفعيل أدوات القانون الدولي لمحاسبة إسرائيل على جرائمها.
والمؤسسات الحقوقية مطالبة بالعمل الدؤوب لتوثيق الجرائم، ورفع الدعاوى أمام المحاكم الدولية لكشف حقيقة ما يحدث للعالم، وإجبار الاحتلال على تحمل تبعات أفعاله.
إن الصمت العالمي تجاه ما يحدث في غزة يُثبت أن القيم الإنسانية قد أصبحت مجرد شعارات تُستخدم لتحقيق المصالح السياسية والاقتصادية. ومع ذلك، فإن الأمل في الشعوب الحرة، وفي صمود الفلسطينيين الذي يُثبت يومًا بعد يوم أن الاحتلال لا يمكن أن يستمر إلى الأبد.
ربما يستغرق الأمر وقتًا، لكن التاريخ علّمنا أن الظلم مهما طال عمره، لا بد أن يزول، وأن الشعوب التي تُصر على حريتها وكرامتها ستنتصر في النهاية، وستبقى غزة رمزًا للصمود والتحدي في وجه الطغيان، ووصمة عار في جبين كل من تواطأ، أو صمت عن هذه الجرائم.