تعيش المنطقة العربية في حالة يُرثى لها، بعد الانكسار الذي أصاب الثورات العربية، وعودة الأنظمة المستبدة مرة أخرى، وتمكُّنها بشكل أو بآخر من السيطرة على مجريات الأمور، وحِرْص هذه الأنظمة على القضاء على كل أملٍ لدى الشعوب، من استعادة كرامتها، ونيل حريتها، وساعد على ذلك عدة عوامل منها:
- وقوف العديد من الدول الغربية، وخصوصًا الولايات المتحدة الأميركية مع الأنظمة المستبدة ودعمها بكل السبل، لتحقيق مصالحها، ولتمكين (إسرائيل) من المنطقة.
- دعم بعض دول الخليج، وخصوصًا المملكة العربية السعودية، والإمارات العربية المتحدة، للانقلاب على المسار الديمقراطي في مصر، الذي ناضل من أجله أجيال عديدة، وضحى للوصول إليه نفوس كثيرة.
- عدم وعي الشباب الذين قاموا بالثورات العربية بخطورة الثورات المضادة، وإتاحة الفرصة لها مرة أخرى للعودة، وعدم الإصرار على إزاحة تلك الأنظمة نهائيًا، والبناء من جديد على أسس ديمقراطية.
- تسرُّع التيار الإسلامي في العديد من الدول، وخصوصًا مصر، في الوصول إلى أعلى سلطة في الدولة، وعدم إدراكهم كمّ التحديات والمشاكل التي تعترضهم، من قلة الخبرة، والتآمر ضدهم.
- القبضة الأمنية الغاشمة التي استخدمتها تلك الأنظمة في مواجهة المعارضين لها، الداعين للتخلص منها، بأقصى أنواع التضييق، والقتل بشكل عشوائي، والحبس التعسفي، والإخفاء القسري، وتسخير كل مؤسسات الدولة، وخصوصًا القضاء للإجهاز على المعارضين.
نماذج فاشية لأنظمة مستبدة
بتتبع حالات ونماذج البلدان العربية بما فيها الدول التي قامت فيها الثورات، سنجد أن السمة الأساسية والمشتركة بين تلك الدول، هي: التعامل بأقصى درجات العنف مع المعارضين، واستخدام كل الوسائل لتشويه صورتهم والقضاء عليهم، وأبرز هذه النماذج ما يحدث في مصر، والسعودية:
نموذج مصر: تعامل السيسي من أول لحظة بعد الانقلاب العسكري على المسار الديمقراطي، بكل قسوة وعنف في التعامل مع الإخوان المسلمين، فقتل الآلاف في الحرس الجمهوري، والمنصة، ورابعة، والنهضة، وأماكن أخرى في عموم القطر المصري، كما قام بتحويل قياداتهم للقضاء المُسيّس، والعسكري، وإصدار أحكام قاسية ضدهم، وصل بعضها للإعدام، وإزاحتهم من كل مؤسسات الدولة، وإغلاق كل مؤسساتهم، والاستيلاء عليها، ولم يكتف بذلك بل تتبع كل المعارضين له من غير الإسلاميين، ولفّق لهم التهم والقضايا وحبسهم، بمن فيهم المعارضين له من المؤسسة العسكرية!
ولم تنته الأمور عند هذا الحد، بل حاول، ولا يزال، تشويه صورتهم الذهنية لدى عموم المواطنين، من خلال شيطنتهم في الآلة الإعلامية الجهنّمية المدعومة من جهات مشبوهة داخل مصر وخارجها، ووصل الأمر بالتحريض على قتل المعارضين لسياسته في وسائل الإعلام، كما يفعل أحمد موسى في برنامجه “على مسؤوليتي” على قناة صدى البلد المملوكة لرجل الأعمال المصري محمد أبو العينين، بل تعدى الأمر أن قام محمد الباز في برنامج “90 دقيقة” على قناة المحور المملوكة لرجل الأعمال حسن راتب بدعوة المصريين في الخارج لقتل المعارضين، وسمّى أسماء بعينها من الإعلاميين، وغيرهم.
وتعدى الأمر إلى عموم المواطنين، ودور العبادة، باستهداف بعض الكنائس، وقتل العشرات من المسيحيين، بحجة مواجهة الأعمال الإرهابية، وإيهام العالم بأن مصر تواجه إرهابًا غير مسبوق، ويجب التعامل معه بكل قسوة، ويهدف السيسي من وراء ذلك إلى تمكين سلطاته، واستمرار دعمه خارجيًا!
ولا يأبه نظام السيسي باعتقال النساء والأطفال، وقهر منظمات المجتمع المدني، التي أصبحت في عهده تُحارَب بكل السبل، مع تأميم كل النقابات المهنية، ومصادرة حرية الرأي والتعبير.
نموذج المملكة العربية السعودية: نجد أنها دعمت، ولا تزال، الثورات المضادة في المنطقة العربية بكل الوسائل، من خلال الدعم بالمال والإعلام والمواقف السياسية والدبلوماسية، بل تعدى الأمر إلى إصدار فتاوى شرعية تخدم مرادهم وتحقق أهدافهم.
ودفعها خوفها من الثورات العربية إلى فرض مسارها الوحيد على كل البلدان التي انتفضت شعوبها.. خشية وصول تلك الثورات إليها، في الوقت الذي استضافت علي عبد الله صالح بعد الثورة اليمنية، وعالجته أيام الملك عبد الله.. قبل أن يعود ليتحالف مع الحوثيين ضدها ويجبرها على الدخول في حرب لم تحقق سوى الدمار لليمن في عهد الملك الحالي سلمان.
كما أقدمت السعودية ومعها الإمارات والبحرين ومصر على حصار دولة قطر التي دعمت ثورات الربيع العربي، ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل أعلنت ومعها دول الحصار؛ وضع الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، والمجلس الإسلامي العالمي “مساع” الذي يندرج تحته العشرات من الهيئات الخيرية والإسلامية والتربوية العالمية، على قوائم الإرهاب!
ولم تكتف المملكة بقيادة محمد بن سلمان بذلك، بل تعدت المسألة إلى تعقب العلماء والدعاة والمصلحين، حيث شنَّت السلطات السعودية منذ سبتمبر/أيلول 2017 حملة اعتقالات وملاحقات استهدفت علماء، ومفكرين، ودعاة بارزين، وأكاديميين، وغيرهم، بلغ عددهم أكثر من مائة شخصية، وجاءت الاعتقالات على خلفية الحصار الذي فرضته السعودية وحلفائها (الإمارات ومصر والبحرين) على دولة قطر في 5يونيو/حزيران 2017.
وتمت الاعتقالات دون أمر قضائي أو مذكرة إلقاء القبض، وهي طريقة تشبه عمليات الاختطاف، ويمنع المعتقل من التواصل مع ذويه أو توكيل محام لمتابعة قضيته.
ومن أبرز الدعاة الذين تم اعتقالهم حتى الآن:
سلمان العودة: وهو داعية سعودي، يعتبر أحد رموز الوسطية الإسلامية، ومن أكثر علماء الدين السعوديين جرأة، وقد كلّفته آراؤه الفقهية السياسية السجن وعرّضته لمضايقات، وله إسهامات كبيرة في الدعوة والفتوى والعمل الخيري. اعتقل في 10 سبتمبر/أيلول 2017 بعد تغريدة له على موقع التواصل الاجتماعي تويتر رحب فيها بأنباء قرب انفراج الأزمة عقب مكالمة هاتفية بين أمير قطر الشيخ تميم بن حمد، وولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، حيث كتب قائلا “ربنا لك الحمد لا نُحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك.. اللهم ألف بين قلوبهم لما فيه خير شعوبهم”.
عوض القرني: وهو داعية سعودي، وقد أصدرت محكمة سعودية في مارس/آذار 2017 قرارًا بإغلاق حسابه على موقع التواصل الاجتماعي تويتر، وتغريمه مائة ألف ريال بعد إدانته بتدوين تغريدة “مثيرة للرأي العام وتَرابُط المجتمع مع قيادته ومؤثرة على علاقات المملكة مع دول أخرى”. واعتقلته السلطات السعودية في سبتمبر/أيلول 2017، واتهمته بحثّ الشباب على الانضمام للجماعات الإرهابية، بالإضافة للتواصل “مع دولتين مرتبطتين بجماعة الإخوان المسلمين المصنّفة جماعة إرهابية داخل البلاد”.
علي العمري: وهو داعية إسلامي سعودي، ورئيس جامعة مكة المكرمة المفتوحة، اعتقل هو أيضًا في سبتمبر/أيلول 2017، وأغلقت السلطات السعودية قناة “فور شباب” التي يديرها.
محمد موسى الشريف: وهو داعية سعودي، وطيار وأستاذ جامعي وكاتب وباحث في التاريخ الإسلامي، ومتخصص في علوم القرآن والسنة.
علي عمر بادحدح: رئيس لجنة تطوير المناهج بجامعة الملك عبد العزيز.
أحمد بن عبد الرحمن الصويان: رئيس مجلس إدارة مجلة “البيان”، ورئيس رابطة الصحافة الإسلامية.
الإمام إدريس أبكر: يعد من أشهر قراء السعودية، ولد في جدة عام 1975.
ولعل ما عبّر به الكاتب الصحفي السعودي جمال خاشقجي – الذي قُتل بطريقة وحشية في سفارة بلاده في إسطنبول – خير دليل على ذلك، بقوله: “فقدان الحرية والشعور بالعجز لم يعد محتملاً في السعودية.. وأقول للمسؤول الأول في بلادي إنه لأمر صحي أن تحافظ على من يُقدّم رأيًا آخر، لأنه هو من يدلك على الطريق الصحيح وليس من يكرر ما يُطلب منه فقط”. وما يحدث في سوريا واليمن من تدمير شامل، وقتل جماعي غني عن البيان، فالحالة واضحة للعيان، وما تقوم به الإمارات من سجن وتغييب للمعارضين دليل آخر على تجبّر تلك الأنظمة مع المعارضين.