نحن في حاجة ماسّة لصناعة الوعي في ضمير ووجدان الأمة، أو بتعبير آخر نحتاح إلى إيقاظ الوعي بما يدور حولنا، ومعرفة الدور الذي يجب على كل واحد منّا القيام به لتغيير الواقع، وتوعية الشعوب التي غيبها الاستبداد، والجهل، والفقر، والبطالة.
والوعي هو ما يمتلكه الإنسان من أفكار ووجهات نظر تتعلّق بالحياة ومفاهيمها وما يحيط به من بيئة، وقد يكون وعيًا حقيقيًا بطبيعة القضايا المختلفة المطروحة حول الإنسان، وقد يكون وعيًا مُضللاً لا يدرك الأمور على حقيقتها التي تجري عليها، مما يجعل حكمه على مختلف القضايا والأمور التي تجري من حوله حكما خاطئا لا يستطع مقاربة عين الصواب بأيّ شكلٍ من الأشكال.
والوعي الإيجابي يساعد في معرفة حقيقة الأمور، وطبيعة التحديات، ويساعدنا في ترسُّم الخطى، ووضع الخطط المستقبلية لبناء أمتنا.
وأخطر ما يمارسه أعداء الأمة العربية والإسلامية، هو تغييب الوعي من جانب، وتزييفه من جانب آخر بكل الوسائل المختلفة المشروعة وغير المشروعة، الظاهرة والباطنة، هدفهم في ذلك كسب المزيد من المنخرطين في دائرة الوعي المنشود لديهم، الذي يصبّ في صالحهم، لذا وجب على ذوي العقول والألباب تنبيه الأمة بكل فئاتها إلى خطورة تزييف الوعي، لتغيير الواقع، والتأثير في الناس لبناء وعيهم على الحقائق.
والمتتبع لواقع الأمة يجد أنها تعرضت لموجات خطيرة من التشويه وتعرضت لهزات كثيرة، ولا يزال صدى ارتجاجها يتردد إلى الآن، وعلى المستوى السياسي، وهو الأظهر، نجد الأنظمة التي توالت على حكم الأمة وتسيير شؤونها الصغيرة والكبيرة بدءًا من أمور الدين والعقيدة وانتهاءً بالفتاوى الافتراضية، قد ساهمت بقسط وافر في هذا التشويه والدفع بالعلماء والمفكرين طوعًا، أو كرهًا إلى الانخراط في سلسلة الهجمات المنظمة لجعل المسلمين الحلقة الأضعف في كل ميدان.
ولا شك أن الأمة أدت ضريبة قاسية ولا تزال تؤدي جرّاء عدم وعيها بقضاياها المحورية والمحددة لقوّتها وهزائمها، فالقضاء على النخب الواعية بمقومات أمتنا الإسلامية بتغييبها في السجون أو القتل أحيانًا، لضرب وعينا قصدًا وتحكمًا واستبدادا، أمر مقصود في ذاته.
فقد اعتمد النظام الغربي في بعض الأحيان القوة الناعمة أو القمع اللطيف وغير المحسوس، لتشكيل وعي هجين يضع السم في العسل لقاعدة شعبية مهمة غير محصّنة فكريا وعقائديا ضد هذه الهجمات المنظمة الخطيرة لتشكيل وعي الأمة وتزيفه، وقد اعتمدت الأنظمة القمعية السابقة كالنظام السوفيتي والناصري والبعثي على المواجهة المباشرة لضرب فكر المخالفين قمعًا لهم وسجنهم واغتيالهم بشكل مباشر وغير مباشر، وقد أدت هذه الأساليب على اختلافها لخلق وضعية فكرية وعقائدية هشة عانت منها الأمة ولا تزال تعاني.
والأمة الإسلامية الآن أحوج ما تكون إلى صُنع وبناء وعي أصيل يعيد لها ريادتها بين الأمم الأخرى، ويردّ لها نصاعة تقدمها وسبقها في مجالات شتى استفادت منها أوروبا في فترات سابقة، حينما كانت تنهل من معين الحضارة الإسلامية.
من هنا وجب علينا طرح بعض الأسئلة المهمة في هذا السياق: ما هي القضايا التي تحتاج من علماء ومثقفي الأمة أن يرفعوا منسوب الوعي حولها لدى الشعوب؟ وكيف تستعيد الأمة بريق وعيها المنشود؟ وأي وعي نريد لأمتنا ومجتمعاتنا المسلمة؟ وهل غاب وعينا أم غُيِّب؟
إن من واجب الأفراد والجماعات أن يعملوا على إمداد الوعي الجماعي بما يملكونه من إمكانيات ومواهب؛ إذ إن صناعة الوعي لا تتأتى إلا بالاستفادة الكاملة من جميع الطاقات والكفاءات، والبحث عنها، واستثمارها في جذب الناس إلى الفكر الأصيل والثقافة الواعية الهادفة، من هنا يبرز دور الرجوع إلى أصولنا وقواعدنا الكبرى وشخصياتنا التاريخية المؤثرة كي نعود معها إلى النبع الصافي والمنهل الخالد لإمدادنا بكل مقومات النهوض والرفع من مستوى وعينا الأصيل، مع الأخذ بوسائل العصر والتطور في جميع المجالات.
ولا شك أن طرق تحصين وعينا من الموجات القوية التي تحارب هويتنا وثقافتنا موجودة وحاضرة في أذهان القلة القليلة من نخبنا ومثقفينا باختلاف مشاربهم وألوانهم، أبرزها عدم تجاهل أي فكر وعدم إقصائه بدعوى عدم ملاءمته لخصوصية أمتنا، بل يجب أن يدرس ويفهم ويناقش بعيدا عن إي إقصاء أو تجاهل، من هنا يبرز دور النخب في تطوير وعي الأمة بشتى اتجاهاته ومساراته.
والمطلوب تغيير شامل ومستدام غايته نهضة الشعب والوطن، ولن يكون إلا بشكل تراكمي ومتواصل في شتى الميادين، ومن أهم هذه الركائز والمسارات التي يجب العمل عليها:
مسار الارتقاء بالنفس والأسرة، فمن يريد أن يساهم في النهوض بوطنه وشعبه عليه أن يبدأ بإصلاح نفسه والارتقاء بها، فتغيير الأوضاع يبدأ بتغيير النفوس والعقول التي أصابها الشلل والتكلس بالكثير من التشوّهات، وإعداد الفرد لبناء أسرة تكون محضنا تربويا وكيانا فاعلا في المجتمع، ولا تكتفي بتلبية الحاجات المعيشية على حساب الروح والفكر.
مسار السلوك الحياتي اليومي، فمطلوب أن يفكّر ويتصرف كل منّا كمواطن حر كريم شريك في الوطن وليس كأجير أو مستأجر أو ضيف أو متفرج، عندها سنقاطع السلبية ونحرص على وطننا وشعبنا كما نحرص على بيوتنا وذوينا، وندافع عن حريتنا وكرامتنا كما ندافع عن أنفسنا، ونرفض الذل ونتصدى للظلم وننتصر للمظلوم، كل ذلك كفيل بنسف مرتكزات الاستبداد والتخلف التي أحاطت بنا.
مسار التفاعل مع هموم الأمة، فالعمل من أجل نهضة الأمة يشمل كل جهد يعود بالنفع على الوطن الذي نعيش فيه، أو نسعى لتحريره من قيود الاستعمار أو أذنابهم، والاهتمام بقضايا الأمة في كل مكان، ولا ينبغي على الشعوب أن تترك الشأن العام للنخب، فحسب، التي من الممكن أن تساهم في تغييب الوعي وتزيفه، بل الأولى السعي مع كل مثقف واعي يريد للأمة النهضة والارتقاء، دون حسابات شخصية، أو مغنم فردي.
أخلص من ذلك وأقول: إن أزمة الأمة ليست في حكامها بالدرجة الأولى، وإنما في علمائها، ونخبها ومثقفيها، فالحكام يحكمون على المال والسلطة والجيوش، لكن العلماء يحكمون على الحكام وعلى القلوب والعقول، فلو أن علماء أي بلد اجتمعوا على أمر ما، وتعاهدوا وتعاقدوا على أن ينصحوا حاكم البلد، ولا يتنازلون عن نصحه وتوجيهه إلى الصواب بالتي هي أحسن، لأدى ذلك إلى تغير الأحوال إلى أحسن حال.
وفي ذات السياق لا يجب أن نستصغر أي جهد يبذل في طريق زيادة وعي الأمة بالوسائل المختلفة، ولكن يجب أن يكون هذا الجهد والبذل في الطريق والاتجاه الصحيح، فهناك تجارب ومسارات نجاح يمكن الاستفادة منها والبناء عليها.