د. كمال أصلان – الشرق القطرية
ما أجمل وأحسن أن يلجأ الإنسان إلى رب العالمين في كل أموره، ويُسند أمره لله فيما يقابله من تحديات أو صعوبات، وهذا هو مبدأ التفويض الذي يجب أن نأنس به في كل أحوالنا، وأن نعتمد على الله في كل أمورنا.
والتفويض إلى الله هو قمة الإيمان والتوكل عليه، ويعني تسليم الأمر كله لله، عز وجل، مع الأخذ بالأسباب، والإيمان بأن ما كتبه الله للعبد هو خير له، سواء علم ذلك أم لم يعلمه.
والتفويض في القرآن الكريم ورد بعبارة صريحة في قول الله تعالى على لسان مؤمن آل فرعون:
(يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ اللَّهِ إِن جَاءَنَا ۚ قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَىٰ وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ… وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ) (غافر: 29-44).
هذا الرجل المؤمن كان في موقف حرج، فهو يعيش بين قوم كافرين وعلى رأسهم طاغية مثل فرعون، لكنه لم يخف ولم يتراجع عن نصرة الحق، بل سلّم أمره لله ووثق بأن الله بصير بحاله، ويعلم ما يواجهه من تحديات، وما يلاقيه من ظلم واضطهاد.
وأكدت السنة النبوية على أهمية التفويض في حياة المؤمن، ومن أبرز الأحاديث التي تدل على ذلك، ما ورد عن النبي، صلى الله عليه وسلم، أنه قال: (احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل: قدَّر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان).
هذا الحديث يربط بين الأخذ بالأسباب وبين التسليم لله فيما بعد وقوع الأمر، فالتفويض لا يعني ترك العمل أو التقاعس، بل يعني أن يعمل العبد جهده ثم يترك النتائج بيد الله، راضيًا بحكمه وقضائه.
ومن المواقف المليئة بالتفويض والتسليم لله:
حينما أمر الله موسى بالخروج مع بني إسرائيل، وجد نفسه أمام البحر ومن خلفه جيش فرعون، كان الموقف صعبًا للغاية، لكن موسى، عليه السلام، قال بثقة ويقين: (قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ) (الشعراء: 62)، هذا هو التفويض الحقيقي، أن ترى الخطر قريبًا منك، لكنك تثق بأن الله لن يخذلك.
وعندما أُلقي إبراهيم، عليه السلام، في النار، لم يتردد في تسليم أمره لله، فقال: “حسبنا الله ونعم الوكيل”. فكانت النتيجة أن قال الله للنار: (قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ) (الأنبياء: 69).
هنا يظهر كيف أن التفويض لله يجلب النجاة حتى في أحلك الظروف.
وفي غزوة الأحزاب، عندما اجتمعت قوى الكفر لتحاصر المدينة، قال النبي، صلى الله عليه وسلم: “اللهم أنت عضدي وأنت نصيري، بك أحول وبك أصول وبك أقاتل”. وقد أظهر الله قدرته حين هزم الأحزاب بريح شديدة وملائكة لم تُرَ.
وللتفويض أثره على النفس، حيث يجعل الإنسان في حالة طمأنينة داخلية لأنه يعلم أن الله يدبر له الأمور بحكمته، وعندما يسلم المؤمن أمره لله، يتخلص من الشعور بالقلق والخوف من المستقبل، والتفويض جزء من التوكل، وهو أن تأخذ بالأسباب، وتترك النتائج لله.
ومن النماذج البارزة في حياة الصالحين؛ الإمام أحمد بن حنبل حين سُجن وعُذب في محنة خلق القرآن، كان يقول: “إن كان الحق معي فالله سينصرني، وإن لم يكن معي فلا خير لي في الانتصار”، وقد رفع الله ذكره وخلّده، وأثبت له الحق على مر العصور.
ومن أجمل الأدعية التي تُقال في التفويض: “اللهم إني أسلمت نفسي إليك، وفوضت أمري إليك، وألجأت ظهري إليك، رغبة ورهبة إليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك”.