د. جمال نصار
كثر الكلام عن وضع المرأة في المجتمع الغربي، وعن جهادها بكل السبل لنيل حريتها وحقوقها، بل أكثر من ذلك فقد غالت في ممارسة هذه الحرية وتلك الحقوق إلى مدى أبعد من المعقول. والحق أن حربًا ضروسًا كانت دائرة حول المرأة في المجتمع الغربي من احتقارها والحط من شأنها، إلى إعلاء مكانتها، وتعسّفًا في حريتها، هذا يفرّط في حقها، وذاك يغالي في حريتها، ولا هذا ولا ذاك وضع لها مكانتها اللائقة بها دينيًا وتاريخيًا، وبين هذا وذاك تصاغ قوانين، وتوضع أيديولوجيات، وتقام مؤسسات. إلا أن ذلك لم يفلح.
بدأت هذه الحرب الضروس بالخروج عن تعاليم العقل والمنطق وازدراء المرأة، وتعمد الحطّ من شأنها، والتقليل من قيمتها وأهميتها في المجتمع، فهذا سقراط يقول: “للرجال السياسة وللنساء البيت”، وأفلاطون “كان يأسف لأنه ابن امرأة… وظل يزدري أمه لأنها أنثى”، أما نيتشه فيؤكد: “إذا قصدت النساء فخذ السوط معك”. هذا الازدراء هو جل ما وصل إليه فلاسفة الزمان، وعباقرة العصر، وكأن المرأة ليست إنسانًا له الحق في الحياة والعيش عيشة كريمة مصونة.
ولعل هذا رأي الفلاسفة الذين لا يراعون دينًا، ولكن بالتأكيد للتراث الديني اليهودي والمسيحي – اللذان أصبحا تراثًا للحضارة الغربية اليهودية والمسيحية – رأي آخر، ولكن هيهات؛ فالخروج عن التعاليم الدينية طال كل الجوانب، وجميع الجهات “فاليهودي يصلي كل صباح صلاة الشكر لله؛ لأنه لم يخلقه عبدًا ولا وثنيًا ولا امرأة”، أما التراث المسيحي، فالقديس بونافنيز يقول: بحكم كهنوته وعلمه الواسع، وخبرته الحياتية: “إذا رأيتم المرأة فلا تحسبوا أنكم شاهدتم موجودًا بشريًا، ولا موجودًا موحشًا؛ لأن ما ترون هو الشيطان نفسه، وإذا ما تكلمت، فإن ما تسمعونه هو فحيح الأفعى”.
هذه الأقاويل والتي ينطق بها صفوة القوم من فلاسفة ورجال دين من شأنها أن تأجّج نار العداوة في نفوس المرأة، ومحاولة فرض نفسها بالقوة وشتى الطرق، وسعيها اللاواعي الأنثوي في العالم الغربي، وبعد قراءة هذه الأفكار وغيرها، هل نجد غرابة في غلو النزعة الأنثوية المتطرفة، عندما تمركزت حول ذاتها واحتقرت الرجل، وأعلنت عليه الحرب… هل نجد غرابة في رد الفعل المغالى هذا أمام هذا التراث الديني للحضارة الغربية، ذلك الذي حمل كل هذا الازدراء والاحتقار والدونية تجاه الأنثى، مطلق الأنثى.
أما الجانب الآخر، والذي انطلق من هذه النصوص وشعر بالاحتقار، فقد كان رد فعله عنيفًا للغاية، هز كيان العالم بأسره، وهدّد الارتباط والاستقرار بين سائر البشر، إنها النزعة الأنثوية المتطرفة التي ظهرت في ستينيات القرن الماضي، والتي سعت لنيل حقوقها بل المغالاة فيها إلى حد الاستغناء عن الرجل مطلقًا، والاكتفاء بالمثل، ليكون صفعة لا على وجه الرجال، وإنما على وجه الإنسانية والفطرة، تلك النزعة التي نادت بتحرير المرأة من كل شيء: من البيت، والانتماء، والغيرة، ومن الرجل.
وبدأ دعاة هذه النزعة ومفكروها يبثون أفكارهم ويدعون إليها، فيطالب فورييه بتحرير المرأة على كل الأصعدة: البيتي والمهني والمدني والجنسي، وقال: إن العائلة تكاد تشكل سدًا في وجه التقدم، وما كان منهج ماركيوز هربرت سوى “التأكيد على انعتاق الغرائز الجنسية، وإطلاق الحرية الجنسية بلا حدود، سواء من ناحية الكم أو الكيف، أي حتى حرية الشذوذ… بل وتمجيده باعتباره ثورة وتمردًا ضد قمع الجنس، وضد مؤسسات القمع الجنسي، معتبرًا التحرر الجنسي عنصرًا مكملاً ومتممًا لعملية التحرر الاجتماعي… ورافضًا ربط الجنس بالتناسل والإنجاب”، بل دعت الفلسفة الأنثوية المتطرفة إلى جعل “تربية الأطفال مسؤولية الدولة والمجتمع، لا المرأة والأسرة” (د. محمد عمارة، الغرب والإسلام، أين الخطأ وأين الصواب، ص236).
وهكذا تتطرف المرأة إلى المغالاة في المطالبة بحقوقها والانتقام من الرجل، والتفنن في إفساد المجتمع، وهذه عاقبة المجتمع الذي يغفل عنصرًا مهمًا من عناصر بنائه. إن دعاوى المثلية، والسحاق لتنبع من هذه الأفكار الهدّامة التي ترفض الأسرة، وتدعو للتخلص من قيد الحياء الذي يعد “داء يجب العلاج منه”.
وبذلك تم ابتذال هذا الإنسان في تسويق السلع، والحملات التجارية، “وهناك صناعات ووظائف هامة جدًا للنظام الاقتصادي والاجتماعي تقوم على هذه النظرة، فصناعة الإعلام تقوم على هذا، حيث يقحم جسد المرأة الشابة العاري ليكون مجتذبًا في الإعلان عن أية صناعة أو سلعة، وتوظف في هذا آلاف – بل عشرات الآلاف – من جميلات النساء، بعد أن يقوم فنانون متخصصون بكشف أجزاء من جسدها وتغطية أجزاء أخرى… وصناعة السينما والعروض المسرحية وعروض الباليه تفعل مثل هذا، أما الاستربتيز الذي تتعرى فيه المرأة قطعة قطعة – بطريقة مدروسة – فهي مبذولة في كل عواصم الغرب ومدنه، وأما أفلام الجنس فهي أفحش وأفحش، وكذلك صناعة الدعارة بالرقيق الأبيض” (د. محمد البلتاجي، قضايا المرأة والطفل في ضوء السنة، ص71).
وهكذا فقد صار هذا الإنسان – المرأة – سلاحًا يحارب به الرجل، وأدى تغيير كيمياء العلاقة بينهما إلى فساد المجتمع وتهديد استقراره بما ينذر بحدوث كارثة ظهرت جليًا بالأرقام في إحصاءات تتصل بالمرأة في مجالات مختلفة فـ”95% من الجنسين في السويد عندهم تجارب جنسية قبل الزواج، تجارب ممارسة طبيعية وعادية، وفي سنة 1985م فإن 59% من حوادث الطلاق بسبب العنف المنزلي. وفي انجلترا فإن 50% من القتيلات كن ضحايا الزوج أو الشريك، وفي سنة 1988م بلغت نسبة النساء اللاتي يعشن مع رجل دون رباط رسمي 20%، في حين بلغت نسبة العائلات المنفردة – أي الأطفال الذين يعيشون مع عائل واحد – في عام 1991م حوالي 27%.
وفي الدنمارك فإن نسبة المواليد غير الشرعيين عام 1990م 46%. وفي أمريكا أم الحضارة والحرية، فإن 80% من النساء فقدن البكارة قبل الزواج، وفي سنة 1993م كانت تغتصب امرأة كل دقيقة وغالب الضحايا في سن تقل عن 17 عامًا، و80% من جرائم القتل عائلية و48% منها مسرحها البيت. وبلغ عائد الولايات المتحدة من الاستغلال الجنسي لدعارة الأطفال – الأطفال فقط – ملياري دولار سنويًا” (د. محمد عمارة، الغرب والإسلام، أين الصواب وأين الخطأ، ص254).
هذه الأرقام تنطق بما وصل إليه هذا المجتمع من انحلال أخلاقي، وتفكك اجتماعي ينذر بكارثة أخلاقية توشك أن تعصف بهذه الحضارة. هذه الأرقام، التي زادت لا شك في السنوات الأخيرة، تكشف القناع عن زيف هذه الحضارة وتلك الحرية، ولعل مفكري المجتمع الغربي قد فطنوا إلى ذلك حين قالوا: “إن الحضارة تقوم على جوانب مادية وأخرى روحية، وإن الحضارة الغربية بلغت شأوًا بعيدًا في الجانب المادي، وانحطاطًا كبيرًا في الجانب الروحي، فهي كالطائر الذي يطير بجناح واحد، ومصير الطائر الذي يطير بجناح واحد السقوط مهما بلغ من قوة”.
ثم بعد هذا يدّعون أنهم حماة المرأة، والمدافعون عن حقوقها، وأن الإسلام سلب منها هذه الحرية، ولا بد من تحريرها، وإعطائها مطلق التصرف تفعل ما تشاء، وفي أي وقت تريد! أقول: سيكون ذلك بداية انهيار هذه الحضارة، لا شك في ذلك، وسيعرف هؤلاء ومن على شاكلتهم أن الإسلام حفظ للمرأة حقوقها، وصانها وكرّمها في كل ميدان.