د. جمال نصار – الشرق القطرية
الرحمة فعل إنساني نبيل يُبرهن على سلامة حسنا الخُلقي، وتوطّد مشاعر الإخاء الإنساني في ضمائرنا، وهي التعبير الخلقي العملي عن تعاطف الإنسان مع أخيه الإنسان حين يواجه المرض، أو الألم، أو حين يقع في المآزق، والملمات دون أن يجد الحيلة للفكاك منها.
وللرحمة صور عديدة منها:
أولا: الرحمة بالوالدين: ويكون ذلك بخفض الجناح لهما، والقيام على خدمتهما، وحُسن رعايتهما، والتذلل لهما لكسب ودهما، يقول تعالى: (وَٱخۡفِضۡ لَهُمَا جَنَاحَ ٱلذُّلِّ مِنَ ٱلرَّحۡمَةِ وَقُل رَّبِّ ٱرۡحَمۡهُمَا كَمَا رَبَّیَانِی صَغِیرًا) (الإسراء: 24).
وقد حثّت السنة النبوية الشريفة على بر الوالدين، فعن ابن مسعود، رضي الله عنه، أن رجلًا سأل النبي، صلى الله عليه وسلم، أي الأعمال أفضل؟ قال: (الصَّلاةُ على وقْتِها، قالَ: ثُمَّ أيٌّ؟ قالَ: ثُمَّ برُّ الوالِدَيْنِ، قالَ: ثُمَّ أيٌّ؟ قالَ: الجِهادُ في سَبيلِ اللَّهِ)، ورُوي عن مالك بن ربيعة أبي أسيد الساعدي، قال: بينما نحن عند رسول الله، صلى الله عليه وسلم، إذ جاءه رجل من بني سلمة، فقال: يا رسول الله، هل بقي من بر أبوي شيء أبرهما به بعد موتهما؟ قال: (نعم الصلاة عليهما، والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما من بعدهما، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما، وإكرام صديقهما).
ثانيًا: الرحمة بالأولاد: ويكون ذلك بحسن تربيتهما، انطلاقًا من مسؤوليته عنهم أمام الله تعالى، يقول، عز وجل: (یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ قُوۤا۟ أَنفُسَكُمۡ وَأَهۡلِیكُمۡ نَارًا وَقُودُهَا ٱلنَّاسُ وَٱلۡحِجَارَةُ عَلَیۡهَا مَلَـٰۤىِٕكَةٌ غِلَاظ شِدَادٌ لَّا یَعۡصُونَ ٱللَّهَ مَاۤ أَمَرَهُمۡ وَیَفۡعَلُونَ مَا یُؤۡمَرُونَ) (التحريم: 6)، كما تكون الرحمة بهم بإشباعهم من العطف والحب والحنان، وتربيتهم تربية صالحة تحفظهم من الزيغ، وغواية الشيطان، وتوجيههم لما فيه المصلحة النافعة لهم في الدنيا والآخرة، ومراقبة أفعالهم وسلوكياتهم، ونصحهم لما يعود بالنفع عليهم، واختيار الصُحبة الصالحة لهم التي تكون عونًا لهم في الدنيا والآخرة، وعدم تركهم لحبائل وسائل التواصل الاجتماعي التي تضر بهم، وتوجيههم لما هو مفيد ونافع.
ثالثُا: صلة الرحم: الرحم مُشتقة من الرحمة في مبناها، ويُطلق الرحم على الأقارب من جهة الأبوة أو الأمومة.
وقد حثّ القرآن الكريم على صلة الرحم في قوله تعالى: (یَـٰۤأَیُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُوا۟ رَبَّكُمُ ٱلَّذِی خَلَقَكُم مِّن نَّفۡسٍ وَ ٰحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنۡهَا زَوۡجَهَا وَبَثَّ مِنۡهُمَا رِجَالًا كَثِیرًا وَنِسَاۤءً وَٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَ ٱلَّذِی تَسَاۤءَلُونَ بِهِۦ وَٱلۡأَرۡحَامَۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلَیۡكُمۡ رَقِیبًا) (النساء: 1).
وقد حثّت السنة النبوية على صلة الرحم، فقال، صلى الله عليه وسلم: (مَن سَرَّهُ أنْ يُبْسَطَ له في رِزْقِهِ، أوْ يُنْسَأَ له في أثَرِهِ، فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ).
هذه التوجيهات الإسلامية تحث المسلم على صلة الرحم، وتدفعه إلى أن يؤدي حقوق أقاربه، وأن يقوّي بالمودة الدائمة صلات الدم القائمة.
رابعًا: الرحمة باليتامى: كفالة اليتامى، والإحسان إليهم، وصيانة مستقبلهم، ورحمتهم من أزكى القربات، بل إن العواطف المنحرفة تعتدل في هذا المسلك وتلزم الجادة.
فعن أبي هريرة، رضي الله عنه، أن رجلًا شكا إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قسوة قلبه، فقال: (إنْ أرَدتَ أنْ يَلينَ قَلبُكَ؛ فأَطعِمِ المِسكينَ، وامسَحْ رَأسَ اليَتيمِ).
خامسًا: الرحمة بالحيوان: فالرحمة في الإسلام لا تقتصر على البشر فحسب، بل تتعداها لتشمل جميع خلق الله حتى الحيوان، وقد شرعت السنة المشرفة، ودعتْ إلى الرحمة بالحيوان، فأمر الرسول، صلى الله عليه وسلم، بالإحسان في القتل والذبح، فقال، صلى الله عليه وسلم: (إنَّ اللَّهَ كَتَبَ الإحْسانَ على كُلِّ شيءٍ، فَإِذا قَتَلْتُمْ فأحْسِنُوا القِتْلَةَ، وإذا ذَبَحْتُمْ فأحْسِنُوا الذَّبْحَ، وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ، فَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ)، بل جعلت السنة المشرفة إيذاء الحيوان سببًا في دخول النار، فقال، صلى الله عليه وسلم: (دَخَلَتِ امْرَأَةٌ النّارَ في هِرَّةٍ رَبَطَتْها، فَلَمْ تُطْعِمْها، ولَمْ تَدَعْها تَأْكُلُ مِن خَشاشِ الأرْضِ).
هذه بعض صور الرحمة التي جاء بها ديننا الحنيف، وتُميزه عن سائر الأديان، والملل التي قلّت فيها الرحمة، وضعفت فيها الشفقة، وكثرت القسوة، وتعددت فيها صور العنف.