د. جمال نصار – عربي21
تمنيت في مقال سابق بعنوان: “حوار السلطة مع المعارضة في مصر”، بتاريخ 5 مايو/آيار الماضي، أن تكون السلطة صادقة فيما تطرحه بخصوص الحوار الوطني، وقلت نصًا “أتمنى أن تكون السلطة في مصر صادقة في دعوتها للحوار الوطني الشامل الحقيقي، دون استثناءٍ لأحد، وإشارة البدء الحقيقية تكون بتبييض السجون، من كل المظالم التي تحتويها، والإفراج عن كل معتقلي الرأي، والمخالفين السياسيين، وإطلاق الحريات العامة. وبغير ذلك سيكون حوار طرشان، أو حوار الغالب للمغلوب، أو حوار سلطة مستبدة باطشة بكل معارضيها تحت تهديد السلاح والقهر”.
ولكن إذا نظرنا إلى الواقع الممارس على الأرض نجد أن المسألة تحولت بدرجة كبيرة إلى شو إعلامي يتم الترويج له في وسائل الإعلام التابعة للسلطة على أن هناك سعي حثيث من كل الأطراف للمشاركة في هذا الحوار سواء في الداخل أو الخارج.
وطرح ذلك بشكل واضح “ضياء رشوان” المنسق العام للجنة الحوار المُكلف من السلطة، وقال في برنامجه “مصر جديدة” على قناة (etc) المصرية، هناك العديد من الشخصيات المهمة خارج مصر تريد أن تشارك، وذكر منهم العالم المصري الدكتور “عصام حجي”.
ولكن في المقابل نجد أن “حجي” بعد يوم واحد من كلام رشوان، يُصرّح على تويتر يوم الجمعة الموافق (24 – 6 – 2022) أنه دُعي ولكنه لن يشارك، بقوله: “أُثمن كل المشاركين والقائمين على الحوار الوطني في مصر.. ولكن مجالي الوحيد في خدمة الوطن هو “العلم والتعليم” ولم ولن يكون لي أي مشاركة في أي حراك سياسي أيًا كان اتجاهه وأهدافه، ولست في خصومة مع أي طرف مهما كان حجم الخلاف.. وأتمنى التوفيق لكل المشاركين”.
هل النظام المصري جاد في الحوار مع المخالفين؟
كل الدلائل والمؤشرات تشير إلى أن ممارسات النظام المصري لا تدل على جديته في أن يكون هناك حوارًا جادًا بين أطراف المعادلة السياسية في مصر بكل فئاتها وأطيافها، دون استثناء لأحد، فرأس السلطة يقول كلامًا، والواقع على الأرض يختلف تمامًا.
فإذا نظرنا على سبيل المثال للواقع السياسي داخل مصر نجد أن هناك تأميمًا كاملًا من جانب السلطة، ورأيًا واحدًا في كل القضايا، ولا يؤخذ أي رأي معارض في الاعتبار، بل يتم تهميشه ومهاجمته في وسائل الإعلام. ولا يوجد تأثير واضح للأحزاب السياسية، فلم يعد يسمع المواطن البسيط أن هناك أحزاب أو قوى سياسية لها تأثير في العمل السياسي، بل أصبح الجميع محصور في الغرف المغلقة والمقرّات الحزبية، ولا يستطيع أي منهم التفاعل مع الجماهير أو التواصل معهم.
ولا يختلف حال النقابات المهنية والعمالية عن ذلك، التي كان لها تأثير واضح في السياسة في مصر، حتى في شدة عنفوان نظام مبارك، كنّا نجد مساحات حتى لو قليلة لهذه النقابات تُمارس من خلالها بعض الأنشطة، وتُعلن عن رأيها في القضايا المختلفة.
وواقع العمل الطلابي في الجامعات لا يختلف عن ذلك، فالمشهد المسيطر على الجميع هو التكلس وعدم إبداء الرأي في أمر يخالف رأي القيادة السياسية، بل وصل الأمر إلى تطويع كل الاتحادات الطلابية لكي تكون لسان حال السلطة، وتعبر عن رأيها.
ووضع حقوق الإنسان في مصر في غاية السوء، فمنذ وصول عبد الفتاح السيسي إلى السلطة بعد الانقلاب العسكري، بدأ النهج القمعي الشديد الذي اتخذته السلطات ضد المعارضين، وخصوصًا مع الإخوان المسلمين، حيث يقبع أكثر من 60 ألف سجين رأي في مراكز الاحتجاز المصرية في ظروف مزرية، ويتعرضون لسوء المعاملة وأحيانًا للتعذيب، وقُتل منهم المئات جرّاء الإهمال الطبي، وحُكم على العشرات بأحكام الإعدام.
واللافت للنظر أن اختيار مجلس أمناء لجنة الحوار في مجمله (19 عضوًا)، الذي تم اختياره في الخامس والعشرين من يونيو/ حزيران الحالي، يمثل توجه قريب من السلطة، وليس هناك أسماء تمثل المعارضة الداخلية بشكل حقيقي، حتى ممن دعموا 30 يونيو/ حزيران 2013. وهذا مؤشر آخر على عدم جدية النظام في إجراء حوار حقيقي يشارك فيه الجميع دون استثناء.
وكانت الحركة المدنية الديمقراطية قد طلبت في مقترح مُقدم للسلطة، بأن يتم تشكيل الأمانة مناصفة بينهم وبين النظام، وتعيين أمين عام من خارج دائرة النظام، إضافة إلى وضع آلية تضمن أن تتحول نتائج الحوار إلى تشريعات وقرارات.
مع من سيتحاور النظام؟
أحال السيسي إدارة الحوار إلى الأكاديمية الوطنية للتدريب، التي تنظم المؤتمر الوطني للشباب، وهو فعالية شبه دورية أقرب لفكرة الطليعة الناصرية، ويترأس مجلس أمناء الأكاديمية السيسي نفسه بحسب موقعه، وتخضع بشكل مباشر للأجهزة السيادية، وتقوم بفرز الشباب المقرر حضورهم للأنشطة التي يحضر السيسي بعدها ليروج هؤلاء الشباب لمدى نجاح النظام السياسي وقدرته على حل المشكلات وقربه من الشباب، وهي تعدّ الفعالية السياسية الوحيدة المسموح بها في إطار النظام الحالي منذ اعتقال خلية الأمل، وإسقاط أغلب الأصوات المعارضة في الانتخابات البرلمانية السابقة.
والواضح أن الأطراف السياسية التي سيشملها هذا الحوار هي تلك التي تستظل بمظلة الاعتراف بشرعية 30 يونيو/حزيران 2013، والقريبة من السلطة بشكل واضح دون غيرها، وما سواها لن يكون له وجود، وخصوصًا جماعة الإخوان المسلمين وتيار الإسلام السياسي برمته، على الرغم من إشارة رشوان أن هناك من يريد المشاركة من الإخوان. وأظن أن ذلك فقط من أجل تعميق الخلاف الحادث داخل الإخوان، واتهامهم بأنهم يغيرون مبادئهم.
أما بالنسبة لمشاركة السلفيين فربما يكون حضورهم من باب المشاركة الشكلية “إكمال الديكور” لا أكثر، هذا بجانب استبعاد الشخصيات العامة التي يراها النظام خارج السرب، ومنها الفريق سامي عنان، رئيس أركان حرب القوات المسلحة الأسبق، والفريق أحمد شفيق رئيس الحكومة الأسبق والمرشح الرئاسي الخاسر.
استبعاد الإخوان وبعض الرموز العسكرية أو المدنية من الدعوة رغم تأكيد السيسي على أن الحوار سيكون شاملًا ودون أي استثناءات سيجهض الفكرة من جذورها، ويضرب مصداقيتها في مقتل، فالشارع المصري يعرف جيدًا أن جميع التيارات السياسية الحاليّة والأحزاب الكرتونية التي تقترب من المئة ليس لها أي وجود أو ثقل سياسي، وعليه فإن الاكتفاء بها على مائدة النقاش سيجعل الحوار أشبه بـ”المونولوج”، فلا صوت يعلو فوق صوت النظام، ولا يمكن لأحد أن يغرد خارج السرب.
والغريب أنه تم استبعاد رئيس حزب “الإصلاح والتنمية” النائب السابق محمد أنور السادات، المعروف بقربه من الأجهزة الأمنية، من “الحوار الوطني”، ومنعه من الظهور في وسائل الإعلام داخل مصر.
السبيل للحوار الجاد
الواقع يؤكد أن هذا الحوار سوف يكون له هدفان اثنان فقط لا غير، وخصوصًا أن السيسي انفرد لمدة ثمان سنوات بإدارة شؤون البلاد كحاكم فرد مطلق، الهدف الأول: إعفاء النظام الحاكم من المساءلة والمحاسبة عن حصاد السنوات الثمانية التي تنتهي منتصف العام الجاري، والهدف الثاني: منح النظام شهادة مرور أو تفويض ثان ليكمل في السلطة ثماني سنوات مقبلة تنتهي حسب المخطط في عام 2030، تفويض جديد لكن في شكل وإخراج مختلف.
أقول مرة أخرى لكي يكون هذا الحوار جادًا وفي الاتجاه الصحيح، وليس للبروبجندا الإعلامية؛ لا بد أن يتم تحديد الهدف الحقيقي من الحوار ومجالاته المتوقعة، التي يجب أن تكون في إطار تعزيز التشاركية والديمقراطية وحقوق الإنسان، والانتصار لدولة القانون، وتبني سياسات جديدة للنهوض بالمستوى المعيشي للمواطنين، والتخلي عن السياسات الراهنة التي ثبت فشلها.
وإطلاق المجال العام، ورفع القيود عن حرية الرأي والتعبير والتنظيم، ودعم الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني، وفتح حوار مع كل الأحزاب والقوى السياسية في الداخل والخارج، وإجراء مصالحة شاملة، وإجراء انتخابات حرة نزيهة تمنح الحق للمواطن في اختيار من يمثله بدءًا من أعضاء المجالس المحلية والنيابية وصولًا إلى رئيس الدولة، ووجود صحافة حرة مستقلة تمارس دورها في الإخبار والنقد والرقابة لصالح المحكومين وليس الحكام، كما نلاحظ من الإعلام الكائن الآن في مصر.
تلك هي القواعد التي من الممكن أن تعمل تباعًا على تفكيك أزمات الدولة، بدونها لن يكون هناك استقرار ولا تقدم ولا تنمية، بدونها ستظل الأمور “محلك سر”، وستظل الأزمات تلاحق الوطن. ومن ثمّ سيتضرر المواطن البسيط قبل غيره، وتتوالى الكوارث عليه، وخصوصًا مع التحولات الإقليمية والدولية الحادثة في العالم.