الواقع الذي تعيشه أغلب الدول العربية واقع مرير ومؤلم، يتقلب بين الاستبداد والقهر، وسوء الأحوال الاقتصادية، وانعدام الحريات العامة، والصراعات الداخلية في أماكن عديدة، وانهيار البنية التحتية، وانتشار الأمية، والجهل، والأمراض.
ولم يكن أحد يتصور في يوم من الأيام أن نصل إلى هذا الواقع بما فيه من مظاهر الانهيار والدمار والانقسامات.. ولم يكن أحد يتصور أن تتوافد حشود الغزاة من كل لون وجنس، ونجد أنفسنا أمام أشكال جديدة من الاحتلال الوحشي الذي دمّر المدن، وطرد البشر، واستباح الموارد والثروات، وعاد بالشعوب مرة أخرى إلى عصور من التخلف والفوضى.
وأتصور أن السبب الأصيل في كل ما وصل إليه العالم العربي ينحصر في سطوة الاستبداد والقهر الذي تمارسه الأنظمة العربية ضد شعوبها، مما دفعها للقبول بالذل والوهن، وهذا ما أشار إليه سيد قطب في مقال نشره في العام 1952 بعنوان: “ضريبة الذل”، ذكر فيه أن “بعض النفوس الضعيفة يخيل إليها أن للكرامة ضريبة باهظة، لا تطاق، فتختار الذل والمهانة هربًا من هذه التكاليف الثِّقال، فتعيش عيشة تافهة، رخيصة، مفزعة، قلقة، تخاف من ظلها، وتَفْرَقُ من صداها، (يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ) (المنافقون:4)، (وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ) (البقرة: 96)، وأكد أن هؤلاء الأذلاء يؤدون ضريبة أفدح من تكاليف الكرامة، إنهم يؤدون ضريبة الذل كاملة، يؤدونها من نفوسهم، ويؤدونها من أقدارهم، ويؤدونها من سمعتهم، ويؤدونها من اطمئنانهم، وكثيرًا ما يؤدونها من دمائهم وأموالهم وهم لا يشعرون”.
وأشار إلى “أنه لابد من ضريبة يؤديها الأفراد، وتؤديها الجماعات، وتؤديها الشعوب، فإما أن تؤدى هذه الضريبة للعزة والكرامة والحرية، وإما أن تؤدى للذلة والمهانة والعبودية، والتجارب كلها تنطق بهذه الحقيقة التي لا مفر منها، ولا فكاك”.
ومن ثمّ وجب على الشعوب العربية أولًا أن تصحو من غفوتها، وأن تعي ما يدور حولها، وأن تعرف أنه لا بد من بذل الجهد والسعي لنيل حريتها، فالحرية لا توهب، ولكنها تنتزع.
الكواكبي وطريق الخلاص من الاستبداد
لا يمكن للشعوب العربية أن تستعيد عافيتها إلا بعد أن تتخلص من براثن الاستبداد، ومظاهره المنتشرة في أرجاء العالم العربي، فالسبب الرئيس للانحطاط والتأخر في كل بلاد الشرق، كما ذكر الكواكبي في كتابه الشهير “طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد”، هو الاستبداد السياسي، وقد توصّل إلى ذلك، كما يقول، بعد بحث استمر لنحو ثلاثين عامًا، فيقول: “الاستبداد هو نار غضب الله في الدنيا، كما أن الجحيم نار غضبه في الآخرة، وقد خلق الله النار أقوى المطهّرات، فيطهر بها في الدنيا دنس من خلقهم أحرارًا، وجعل لهم الأرض واسعة، فكفروا بنعمة الحرية، ورضوا بالاستعباد والظلم”.
وما ذكره الكواكبي في كتابه يكاد ينطبق حرفيًّا على الوضع الراهن للأمة، الذي يشهد استبدادًا غير مسبوق، بل يكاد ينطبق على حكام بعينهم ممن يتحدثون كحكماء أو كمهرجين، ونجدهم يتصرفون كقتلة وسفاحين، يقول الكواكبي في تعريفه للاستبداد: “إنه غرور المرء برأيه والأنفة عن قبول النصيحة أو الاستقلال في الرأي والحقوق المشتركة، وفي اصطلاح السياسيين هو تصرف فرد أو جمع في حقوق قوم بالمشيئة وبلا خوف تبعة، والمستبد يتحكم في شؤون الناس بإرادته لا بإرادتهم ويحكم بهواه لا بشريعتهم، ويعلم من نفسه أنه الغاصب المعتدي فيضع كعب رجله على أفواه الملايين من الناس يسدها عن النطق بالحق والتداعي لمطالبته، .. ثم يقول: المستبد عدو الحق، عدو الحرية وقاتلها، والحق أبو البشر والحرية أمهم، والعوام صبية أيتام نيام لا يعلمون شيئًا، والعلماء هم أخوتهم الراشدون”.
ويبين أن السياسيين يبنون استبدادهم على أساس التعالي الشخصي والتشامخ الحسي عليهم، فيذلونهم بالقهر والقوة وسلب الأموال حتى يجعلوهم خاضعين لهم عاملين لأجلهم يتمتعون بهم كأنهم نوع من الأنعام التي يشربون ألبانها ويأكلون لحومها ويركبون ظهورها وبها يتفاخرون، مبينًا أن القرآن الكريم جاء مشحونًا بتعاليم إماتة الاستبداد وإحياء العدل والتساوي حتى في القصص منه، ومن جملتها قول بلقيس ملكة سبأ لقومها: (يا أيها الملأ أفتوني في أمري ما كنت قاطعة أمرًا حتى تشهدون) (النمل: 32)، فهذه القصة تعلم كيف ينبغي أن يستشير الملوك الملأ أي أشراف الرعية، وألا يقطعوا أمرًا إلا برأيهم وتشير إلى لزوم أن تحفظ القوة والبأس في يد الرعية، وأن يخص الملوك بالتنفيذ فقط، وأن يكرموا بنسبة الأمر إليهم تكريمًا، وتقبح شأن الملوك المستبدين، متسائلاً وكأنه يعيش بيننا الآن: ومن يدري من أين جاء فقهاء الاستبداد بتقديس الحكام عن المسؤولية حتى أوجبوا لهم الحمد إذا عدلوا، وأوجبوا الصبر عليهم إذا ظلموا، وعدوا كل معارضة لهم بغيًا يبيح دماء المعارضين؟ ويتساءل: لولا حلم الله لخسف الأرض بالعرب، حيث أرسل لهم رسولاً من أنفسهم أسس لهم أفضل حكومة أسست في الناس، جعل قاعدتها قوله “كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته” أي كل منكم سلطان عام ومسؤول عن الأمة.
ويبين الكواكبي في فصل الاستبداد والعلم أن المستبدين يعمدون إلى احتكار المعلومة وتصنيعها، وتجهيل المجتمع، يكرهون المتعلمين المتنورين أصحاب الكرامة لأن سلطان العلم يفوق سلطانهم، يهمشون الشعب (العوام) باعتبارهم رعاعًا غوغائيين غير ناضجين يشبهونهم بالقطيع المحتاج للقيادة والحماية.
والخلاصة كما يقول الكواكبي: “أن الاستبداد والعلم ضدان متغالبان، فكل إدارة مستبدة تسعى جهدها في إطفاء نور العلم، وحصر الرعية في حالك الجهل، والعلماء والحكماء الذين ينبتون أحيانًا في مضايق صخور الاستبداد يسعون جهدهم في تنوير أفكار الناس، والغالب أن رجال الاستبداد يطاردون رجال العلم وينكلون بهم، فالسعيد منهم من يتمكن من مهاجرة دياره”.
ويرى الكواكبي أن الدين بالنسبة للمستبد هو الوسيلة الأعظم لفرض سطوته وحكمه على شعب جاهلٍ بائسٍ خائف يفتقر لأبسط درجات العلم والمنطق. يبدأ الحاكم بتجنيد رجال دين وكهنة وقسوس يرهبون العوام من مصائب الله وعقابه ويوهمونهم بأن خلاصهم لا يكون إلا بتبجيل الحاكم وطاعته وعدم الخروج عن أمره، ولا يتوقفون عند هذا فحسب، بل يُضفون صفات الجبروت والعظمة والألوهية على حاكمهم فيختلط على الناس صفات ربهم بصفات قاهرهم ومستبدهم، ولذلك يقتنعون بانعدام حقهم في الانتقاد والمعارضة، ويبقى الشعب على هذه الحال من التخبط والفوضى إلى أن يترقى في العلوم والمعارف وخاصة العلوم الحياتية والسياسية والأخلاقية، لتدرك الأمة حجم المخاطر والظلم والعدوان وسلب الحقوق الذي يحيط بها وتَعلم حقيقة النظام الفاسد بكل فروعه ووزاراته وتقرر مجابهته عن علمٍ وبصيرة.
قد يتعجب من عدم تخلص شعوبنا العربية من حكامهم المستبدين رغم ثورتهم وهباتهم ضد الظلم، ولكن الفصل الأخير من الكتاب يقدم الإجابة الكافية والشرح المفصل لهذا التساؤل. التخلص من الاستبداد مبني على ثلاث قواعد يجب أن تتحقق جميعها معًا لينجح الشعب في ثورته:
القاعدة الأولى: هي أن “الأمة التي لا يشعر كلها أو أكثرها بآلام الاستبداد لا تستحق الحرية”.
القاعدة الثانية: هي “أن الاستبداد لا يقاوم بالشدة إنما باللين والتدرج”.
والثالثة: هي أنه “يجب قبل مقاومة الاستبداد تهيئة ماذا يُستبدَل به الاستبداد”.
ويقدم الكواكبي لكل قاعدة شرحًا مفصلاً لها، ولأن ثورة الأمة تبدأ من الأفراد المثقفين المتعلمين الواعين لحقوقهم وحرياتهم، يبين الكواكبي صفات القائد القادر على النهوض بأمته.
ومن ثمَّ إذا أرادت الشعوب العربية أن تستعيد عافيتها وحريتها وكرامتها، فعليها بالسعي للتخلص من براثن الاستبداد المهيمن على مقدرات الأمة. ولذلك قال الكواكبي إن “الاستبداد والتسلط بمختلف ألوانه وأشكاله هو شيء أعمى يسير عكس حركة التاريخ والحضارة والحياة الإنسانية الطبيعية… لأنه يقف على طرف نقيض من حرية الإنسان، ومن قدرته على تحقيق الاختيار السليم، بل إنه يشلّ طاقة التفكير واستخدام العقل والفطرة الصافية عند الإنسان، ويرهن سعيه للمجهول، ويجعله أسيرًا بيد الجهل والتخلف”.
والخلاصة أنه إذا انتشر الفساد في أمة وتملّكها، وسيطر عليها المستبدون والطغاة، وتحكّموا في مصيرها وخيراتها، وتم الاستهتار بالحريات العامة، وتكميم الأفواه، ومنع حرية التعبير، وإهدار القيم والمبادئ والتعليم، وسيادة الجهل والمحسوبية، ومحاربة المصلحين والعلماء والشباب وسجنهم واستبعادهم؛ فلا شك أن هذه الأمة ستكون في ذيل الأمم، ولن تقوم لها قائمة إلا بالتخلص من الاستبداد ومظاهره.