د. كمال أصلان – مدونة العرب
بناء الشخصية السوية التي تستطيع أن تواجه تقلبات الحياة، وتحديات الواقع، مسألة في غاية الأهمية، وذلك لأن الإنسان هو العنصر الأساس في النهوض من الركود، وكما يقولون: بناء البشر أهم من بناء الحجر.
وإذا أمعنا النظر في كيفية بناء الإنسان في صدر الإسلام، نجد أن النبي الكريم، صلى الله عليه وسلم، أولى إعداد وتجهيز المسلم أهمية كبيرة، على جميع المستويات، وذلك لتهيئته لحمل الرسالة التي أرادها الله، عز وجل، للعالمين، بكل اقتدار، واستعداد.
فكان الإعداد الإيماني في دار الأرقم بن أبي الأرقم للثلة الأولى من المؤمنين في مكان لا يعلم به أعداء هذه الدعوة المباركة، فكان تأمينهم مسألة مهمة حتى يكتمل البناء الأخلاقي، والإيماني استعدادًا للمرحلة القادمة. وفي هذه المرحلة اهتم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بتوثيق صلة هذه الفئة المنتقاة بالله، سبحانه وتعالى، وإقامة الصلاة بطمأنينة، وتوضيح أحكام الإسلام، وتعريفهم بما يجري في مجتمعهم، وما يدور حولهم من مكائد، مع التركيز على المعاني الإيمانية التي تقوّي عزيمتهم، وتُزكي أخلاقهم، وتُطهر قلوبهم من أدران الجاهلية، ورذائل الأخلاق، وسيء العادات.
وهذه إشارة مهمة أن تكوين الإنسان الإيماني لا بد أن تكون له الأولوية الأولى في الإعداد، لأن هذه التربية هي التي ستحفظه من الشرور والمكائد، وتعينه على مواجهة التحديات والصعوبات، ومن ثمّ يجب ربط الإنسان بخالقه الذي خلقه، ويدبّر أمره، ويعينه على نوائب الدهر.
ولنا في نموذج إعداد محمد الفاتح الذي فتح القسطنطينية في العام 1453، المثال والقدوة؛ فلم تكن المسألة إعداد عسكري فحسب، وهذا مهم بطبيعة الحال، ولكن الأهم منه إعداد المقاتل، والمجاهد على عين الله، وتربيته تربية إيمانية شاملة، تكون عونًا له، وسندًا في مواجهة الأعداء.
حيث تربّى محمد الفاتح منذ نعومة أظافره على معاني البطولة، والجهاد، والقيادة، والصلاح فقد كان أبوه السلطان مراد الثاني يُربّي أبنائه ليكونوا قادة عظام يحملون الراية من بعده، لذلك عهد به لعدد من المربين، والعلماء الأفاضل لتربيته على القيم الإسلامية، والمعاني الجهادية، منهم: العالم الرباني المولى أحمد بن إسماعيل الكوراني، الذي ختم القرآن على يديه في مدة يسيرة، ثم علّمه العلوم الإسلامية، وقرأ عليه كتب التاريخ. وظهر نبوغ محمد على سائر الأمراء، واستطاع أن يتقن ثلاث لغات هي التركية، والفارسية، والعربية.
والمعلم الثاني كان الشيخ محمد بن حمزة الروحي الملقب بأق شمس الدين، حيث رباه على أمرين:
مضاعفة حركة الجهاد العثمانية، والإيحاء له منذ صغره بأنه الأمير المقصود بالحديث النبوي لتفتحن القسطنطينية فلنعم الأمير أميرها ولنعم الجيش ذلك الجيش، حتى تشبّع فكر محمد الفاتح، وكان أول ما فعله بعد ولايته الإعداد لفتح القسطنطينية. وهكذا ربى هذا العالم الرباني تلميذه النجيب ليتولى القيادة على معاني عظيمة، وربطه بهدف أسمى يسعى إليه، ويوجه إليه كل طاقاته، وهذا كان له الأثر الكبير في صالح الأمة بأسرها.
ومن أبرز النماذج في الوقت الحاضر؛ ما نشاهده من صمود الشعب الفلسطيني في غزة، على الرغم من كل ما يمارسه الكيان الصهيوني من إجرام وإبادة، إلا أن هذا الصمود الأسطوري لم يكن من فراغ، بل سبقه إعداد إيماني، وتوثيق الصلة بالله وكتابه، ونموذج المجاهدين من كتائب القسام، وغيرها من الفصائل الأخرى الذين يواجهون أعتى قوة عسكرية في العالم، بسلاح بسيط، ولكن يحملون في قلوبهم الإيمان القوي الذي لا يهتز، واليقين الكامل بنصر الله، مع الأخذ بأسباب القوة بقدر المستطاع، متمثلين قول الله، تبارك وتعالى: (والَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وإنَّ اللَّهَ لَمَعَ المُحْسِنِينَ) (العنكبوت: 69).
وعليه فإن إعداد الذات على الإيمان الخالص، والتربية المستقيمة، تساهم بشكل كبير في تكوين الشخصية المسلمة التي تستطيع أن تواجه الحياة بكل تحدياتها، وتقابل الكوارث والمصائب بكل تسليم لله عز وجل، وتقف في مواجهة المؤامرات كالشُم الرواسي، لا تلين ولا تتزعزع، وتسعي بكل السبل لاسترداد حقها المسلوب مهما كلفها ذلك من تضحيات.
فلولا إيمان أهل غزة ويقينهم بالله، لما كان هذا الثبات الذي أذهل العالم، في مواجهة جبروت وطغيان الصهاينة المدعومين من قوى الشر في العالم، ولما رأينا هذا الرضا التام، والتسليم لله، تبارك وتعالى، برغم القتل والهدم الذي أصاب البشر والحجر.