أي إنسان منصف ينظر ويتابع ويعايش للأوضاع في مصر يشعر بالحزن الشديد لما آلت إليه الأمور على جميع الأصعدة، فبعد أن ثار جموع الشعب على الظلم والاستبداد في الخامس والعشرين من كانون الثاني/ يناير العام 2011، ومارس حقه الديمقراطي في اختيار ممثليه في مجلسي الشعب والشورى في العام 2011، وانتخابات رئاسة الجمهورية في العام 2012 أول انتخابات ديمقراطية نزيهة في تاريخ مصر، تم الانقلاب على كل هذه الاستحقاقات ومحوها بطريقة غير ديمقراطية، بانقلاب عسكري دموي، واعتقال عشرات الآلاف والتنكيل بهم، وقتل الآلاف، والتربص بكل من يعارض نظام يوليو الجديد، الذي استخدم كل الوسائل غير الشريفة في تشويه معارضيه والتنكيل بهم.
ومن ثمَّ عادت الأمور إلى سابق عهدها بل ازدادت الأزمات تلو الأزمات على المستوى الاقتصادي، والسياسي، والاجتماعي، والإعلامي، وشعر الكثير من المواطنين أن الثورة على النظام القديم جلبت لهم الويلات والضيق والعنت في المعيشة.
وأخطر ما فعله السيسي ونظامه شق المجتمع إلى نصفين أو شعبين، كما عبّر عن ذلك على الحجار في أغنيته (أنتم شعب واحنا شعب) وهذا أخطر ما في الأزمة أن يتم تقسيم المجتمع المصري بهذه الطريقة، والمبالغة الشديدة في تشويه خصوم السيسي باستخدام آلة الإعلام الجهنمية التي تقلب الحقائق وتشوه المعارضين!
وآخر هذه الأثافي، على سبيل المثال لا الحصر، التربص بلاعب الكرة الموهوب محمد صلاح، ومحاولة تشويه صورته بحجة أنه يمسك بالمصحف دائمًا مثل الإخوان، وأنه شبيه بأبو تريكة، حسب زعم بوق النظام أحمد موسى، ناهيكم عن إدراج اللاعب محمد أبو تريكة على قائمة الإرهاب، الذي ملك قلوب الملايين في العالم العربي، وحقق العديد من البطولات لمصر وأفريقيا، وهذه القائمة التي أُدرج فيها العديد من الشرفاء من أبناء الشعب المصري وتخطّت أكثر من 1500 شخصية بين أستاذ جامعة، وأطباء، ومهندسين، ومدرسين، ورجال أعمال، وغيرهم، تبيح لنظام السيسي وقضائه المُسيس أن يمنع الحقوق الطبيعية للمواطن المصري، من عدم التصرف في الأموال الخاصة، والمنع من السفر، وعدم إصدار جوازات السفر!
هذا الواقع المرير الذي تعيشه مصر في ظل حكم السيسي ومن يدعمه، سيقضي على البقية الباقية من مقدرات الدولة المصرية، وستكون نتيجته الانهيار في كل شيء على جميع المستويات، وهذا ما لا يتمناه كل مُحب لمصر وشعبها، لأن مصر برغم كل ما تعانيه، تمثل القاطرة المهمة للأمة العربية والإسلامية إذا عادت إلى طبيعتها، واستقامت أمورها، واستقرت أوضاعها.
حديث المصالحة والتسوية السياسية
لا شك أن ترابط الشعوب وتماسكها مسألة في غاية الأهمية لمواجهة أي تحديات بشكل عام، والتاريخ يزخر بالعديد من النماذج الدالة على ذلك، والشعب المصري نفسه نموذج واضح في هذا السياق، فحينما اتحدت النخبة مع آمال وطموحات الشعب في الخامس والعشرين من يناير، تم إزاحة رأس النظام (حسني مبارك)، وشهد العالم كله بهذا النموذج الفذّ في السعي للتخلص من المستبدين، ولكن بعد الانقلاب على المسار الديمقراطي، تغيرت الأمور وتبدلت الأحوال، وازدادت الفرقة والتشرذم حتى بين الذين كانوا بالأمس على قلب رجل واحد!
والسؤال الجوهري، ما السبيل والحل للخروج من هذه الأزمة العاصفة شديدة الخطورة على مستقبل مصر، وهل يمكن أن ترعى جهات، أو دول مسألة المصالحة بين الشعب المصري والنظام القائم، أو بتعبير آخر بين الإخوان والسيسي؟
أقول للحديث عن هذه المسألة لابد من الوقوف عند بعض المنطلقات:
أولًا: لا يمكن أن تحدث تسوية سياسية في هذا الجو المشحون من خلال الإعلام من كلا الطرفين، فلابد من تهيئة الأجواء والبيئة المناسبة لكي يشعر الشعب المصري أن هناك حرص من جميع الأطراف على تحقيق هذه المصالحة، أو التسوية.
ثانيًا: دائمًا المصالحة أو الهدنة أو التسوية يكون فيها تنازلات من كلا الطرفين، فهل يمكن لنظام يملك كل مقدرات الدولة، ويتعنّت مع كل من يعارضه وينكِّل بهم، وعلى الجانب الآخر معارضة مشتتة، وضعيفة ليس لديها أوراق ضغط، أن يجلسا سويًا ويحققا تسوية مناسبة؟
ثالثًا: في الفترة الأخيرة تأتي عبارات المصالحة من الطرف الضعيف الذي نكَّل به النظام في أكثر من موقف، دون أن يكون هناك تحرك واضح، أو تصريح صريح من السيسي نفسه أو من نظامه، لأنه يشعر أنه الأقوى ويمسك بكل الأوراق في يده.
رابعًا: التشويه الممنهج والمتعمد لكل المعارضين للسيسي ونظامه، وخصوصًا الإخوان المسلمين، وتعقبهم في كل تحركاتهم، واستخدام منصّة القضاء للقضاء عليهم، لا يمكن أن يساعد على تحقيق أي تقدم في الاتجاه الصحيح، أو التهيئة لتسوية سياسية.
رابعًا: لابد من تحرك العلماء والمخلصين الوطنيين من كل الاتجاهات لتقديم الحلول، وطرح الأفكار وتهيئة المناخ، للدفع في اتجاه تسوية سياسية، وعلى الأطراف المعنية تقديم تنازلات، لا الدفع في اتجاه المعادلة الصفرية، والضربة القاضية التي لن تحل الأزمة.
خامسًا: على الدول التي دعمت، ولا تزال تقف مع السيسي ونظامه أن تتوقف عن محاربة خصومه بوسائلها المختلفة، وخصوصًا دولة الإمارات، والمملكة العربية السعودية، ويتركوا الشعب المصري، والحريصين على مستقبله أن يقرروا مصيرهم بعيدًا عن المزايدات وتصفية الحسابات.
سادسًا: لابد أن يعلم الجميع، وكل الأطراف المعنية أن أي تأخر في التقدم من أجل إنجاز في اتجاه تسوية سياسية معقولة تقوم على العدل والانصاف، ورد الحقوق والمظالم، سيزيد الأمور تعقيدًا على جميع المستويات، وسيُقزِّم من دور مصر في المنطقة أكثر وأكثر.
سابعًا: لابد من إبعاد كل المزايدين من الطرفين، لأنه للأسف، هناك العديد من كلا الطرفين يستفيد من تلك الحالة الضبابية شديدة التعقيد، وتقديم أصحاب الفكر والرأي المعتدل، الذين يرغبون بإخلاص لتقديم حلول لا خلق أزمات.
ثامنًا: على درجة كبيرة من الأهمية تقارب القوى المعارضة لنظام السيسي فيما بينها، ووضع رؤية مناسبة بأجندة واضحة، وفي القلب منها جماعة الإخوان المسلمين، فلا يصح بأي حال من الأحوال أن يتم المصالحة أو التسوية السياسية بين المعارضة المصرية ونظام السيسي، وتكتل مهم مثل الإخوان مُنقسم على نفسه!
أقول: هذه بعض الأفكار التي يمكن أن تساعد في وضع النقاط على الحروف، ومناقشتها، بشرط إخلاص القائمين عليها، وتهيئة الشعب المصري بكل أطيافه لقبول مثل هذا الطرح أو غيره.
والبداية تبدأ بالإرادة الحقيقية لتغيير الواقع من الجميع، والتوقف عن الشحن المستمر وتهييج الرأي العام، من خلال الإعلام بشتى أشكاله، واعتماد أسلوب الحوار والمصارحة، والبعد عن التعامل بالسياسة الأمنية العنيفة من قبل النظام، في هذه الحالة فقط، يمكن الحديث عن إجراء تسوية سياسية أو مصالحة تقوم على الإنصاف، والعدل، والتضحية، وتقديم تنازلات من كلا الطرفين.
والله من وراء القصد