د. كمال أصلان – مجلة المجتمع الكويتية
لا يخفى على أحد أن العالم يشهد اليوم صورًا صارخة من الظلم، وعلى رأسها ما يحدث في غزة من عدوان متواصل، وتهجير قسري، وقتل عشرات الآلاف من الأطفال والنساء، تحت سمع وبصر العالم أجمع. هذا المشهد يتسم بالصمت، والخنوع، بل وأحيانًا التبرير أو التخاذل، وعلى الرغم من وضوح الحق، وصرامة الظلم، إلا أن الردود خافتة، والمواقف باهتة، وحتى الكلمات أصبحت مدروسة بعناية حتى لا تُغضب أحدًا.
لماذا هذا الهوان، وهذا الخنوع؟ لماذا كل هذا السكوت المطبق من الشعوب، ومن العلماء، ومن المؤسسات والدول؟ أهي الغفلة؟ أم العجز؟ أم شيء أعمق من ذلك؟!
الأسباب الحقيقية لهذا الهوان والخذلان:
الأسباب الحقيقية لما يحدث في غزة متعددة ومعقدة، ومؤلمة في ذات الوقت، خاصة مع ما يحدث من مآسي متواصلة، وإبادة جماعية على مرئى من العالم كله، وهذه الأسباب تتعلق بعوامل سياسية ودولية وإقليمية وتاريخية، منها:
أولًا: الهيمنة العالمية وتكميم الأفواه:
الأنظمة العالمية التي تتحكم في الاقتصاد والإعلام والسياسة تمارس ضغوطًا هائلة على الدول والشعوب وحتى الأفراد، بحيث يصبح التعبير عن الموقف الحقيقي خطرًا يهدد المصالح أو الأمن أو الاستقرار، فكثير من الدول العربية والإسلامية مُكبّلة بالديون والاتفاقيات والتحالفات التي تجعلها رهينة إرادة الخارج.
ثانيًا: تفتيت الوعي وتشتيت الأولويات:
نجح الإعلام الغربي وبعض النخب المحلية في تحويل اهتمام الناس من القضايا المصيرية إلى القضايا الهامشية، أو إلى الصراعات الداخلية، أو حتى إلى توافه الأمور، فنجد أن الوعي الحقيقي قد غُيّب، وسادت ثقافة الاستهلاك، والانشغال بالنجوم والترفيه، على حساب متابعة قضايا الأمة.
ثالثًا: ضعف الإيمان وغياب اليقين:
حين يغيب اليقين بنصر الله، وينهار الإيمان بعدالة القضايا التي نحملها، يسهل التخاذل، ونرى أن كثيرًا من الناس باتوا يظنون أن لا فائدة من الكلام، ولا طائل من العمل، وأن العالم لا يتغير، وهذا وهم قاتل.
رابعًا: الخوف من البطش والعقاب:
الأنظمة الاستبدادية جعلت من التعبير عن الرأي مغامرة قد تنتهي بالسجن أو التشريد أو القتل، فتراجع الناس خطوة وراء خطوة حتى بات السكوت هو القاعدة، وانزوى الجميع إلى مصالحه الخاصة، ولم يعد هناك اهتمام أو شعور بآلام الآخرين.
خامسًا: فقدان القدوة:
في ظل غياب الشخصيات القيادية الصادقة والشجاعة، افتقد الناس إلى النماذج التي يمكن الاقتداء بها، فحين يصمت الكبار، فلا يمكن للصغار أن يتحركوا، وخصوصًا أن العديد من الأنظمة كبّلت وسجنت العديد من أصحاب الرأي والتأثير!
الدور المطلوب للتحرك والفعل لإنقاذ أهلنا في غزة:
أولًا: دور الشعوب:
الشعوب هي صاحبة السلطة الحقيقية في أي تغيير، وإذا تحركت الشعوب، اهتزت العروش وتغيرت السياسات، لذا، فإن عليها مسؤولية عظيمة، ويمكن تلخيص دورها في:
1. نشر الوعي: من خلال التوعية، والنقاشات، ووسائل التواصل، وتوضيح الحقائق، وكشف التضليل.
2. مقاطعة العدو وداعميه: بالمقاطعة الاقتصادية والثقافية والإعلامية، والتي أثبتت فعاليتها عندما طُبقت بجدية.
3. الدعاء والعمل: فلا يجوز أن يتحول الدعاء إلى بديل عن العمل، بل هو شريك روحي لعملٍ ميداني.
4. الضغط الشعبي: من خلال التظاهرات، والرسائل، والحملات الإلكترونية، والالتفاف حول القضايا العادلة.
5. تربية الجيل القادم: على قيم العزة والكرامة والحرية، وعدم الانسياق وراء روايات العدو.
ثانيًا: دور العلماء والدعاة:
العلماء هم ورثة الأنبياء، وهم حُرّاس الضمير الجمعي للأمة، وإذا صمت العالِم، تاه الناس، وساد الباطل، لذا فإن دورهم محوري، ويشمل:
1. قول الحق: ولو كان مُرًا، ولو كلفهم مكانة أو منصبًا، فالساكت عن الحق شيطان أخرس.
2. التأصيل الشرعي للمواقف: لتوضيح الواجب الشرعي تجاه نصرة أهل غزة المظلومين.
3. نشر الفقه السياسي الواعي: ليُدرك الناس كيف يفهمون الواقع ويتعاملون معه بميزان الشرع والعقل.
4. بناء الوعي في المساجد والمنابر: وليس فقط الحديث عن العبادات، بل عن قضايا الأمة ومشكلاتها.
5. الدفاع عن المظلومين: بالكلمة والموقف، وربط الناس بدورهم في النصرة والمساعدة.
ثالثًا: دور المؤسسات والمنظمات والهيئات:
المؤسسات، سواء كانت إعلامية أو تعليمية أو اجتماعية، هي أدوات التأثير الجماهيري، وعليها أن تنهض من سباتها، وتقوم بأدوار متعددة منها:
1. المؤسسات الإعلامية: لا بد أن تكون منصة للحق، لا بوقًا للتطبيع أو التمييع أو التبرير، وأن تتبنى القضايا العادلة بصدق ومهنية.
2. المؤسسات التعليمية: لا بد أن تغرس في عقول الطلاب أن فلسطين ليست قضية سياسية فقط، بل قضية عقيدة وهوية.
3. المنظمات الإنسانية: يجب أن تركز جهودها على دعم المتضررين في الميدان، وتقديم المساعدات الفعلية بدل الصور الدعائية.
4. المراكز البحثية والفكرية: عليها أن تنتج خطابًا جديدًا، وتحلل الواقع وتقدم حلولًا لا مجرد تشخيصات.
رابعًا: دور الدول العربية والإسلامية:
رغم الضغوط الدولية والإقليمية على الدول العربية والإسلامية، فإنها لا تزال تملك أوراقًا كثيرة تستطيع من خلالها نصرة القضايا العادلة، إذا توافرت الإرادة السياسية:
1. المقاطعة الدبلوماسية: سحب السفراء، وتجميد العلاقات، أو على الأقل التهديد بذلك، ورفض استقبال مسؤولي الدول المعتدية.
2. التحرك القانوني: عبر المحاكم الدولية، ورفع القضايا على قادة الاحتلال بتهم الإبادة والجرائم ضد الإنسانية.
3. الدعم السياسي والإعلامي: لتغيير الرواية العالمية الداعمة للكيان الصهيوني، وكشف الوجه الحقيقي للعدو.
4. توحيد الجهود: من خلال قمة إسلامية فاعلة، أو تحالف عربي حقيقي يتجاوز الخلافات الهامشية.
5. الدعم المالي والعسكري: على الأقل للمقاومة المشروعة، أو عبر تمكين الشعوب من تقديم العون.
أقول: إن الاستمرار في هذا الهوان لا يعني فقط خسارة أرض أو قضية، بل خسارة روح الأمة كلها، فالصمت الطويل يولّد القبول، والقبول يولّد التطبيع، والتطبيع يولّد التحالف مع الظالم، وفي النهاية نصبح شركاء في الظلم لا ضحاياه.
والمجتمعات التي تعيش على الهامش، وتكتفي بردود الفعل العاطفية أو الموسمية، لا تصنع تاريخًا ولا تحفظ كرامة، لذا، فإن كسر هذا الصمت ضرورة وجودية، وإلا فإن السؤال القادم سيكون: هل بقي لنا ما يستحق أن نسكت عنه أصلًا؟!
فالهوان الذي نعيشه ليس قدرًا محتومًا، بل هو نتيجة قرارات واختيارات يمكن تغييرها، والسكوت ليس علامة على الحكمة دائمًا، بل قد يكون خيانة في أحيان كثيرة، والشعوب إذا أرادت، والعلماء إذا صدقوا، والمؤسسات إذا تحررت، والدول إذا امتلكت إرادتها، فإن عجلة التغيير ستبدأ، ولو ببطء.
إن الواجب اليوم هو أن نتحرك، لا أن نبرر، وأن نعلو، لا أن ننهزم، وأن نقول “لا” لهذا الإجرام والإبادة الجماعية التي تحدث في غزة، ولو كنا وحدنا، فالله معنا.
(ٱلَّذِینَ أُخۡرِجُوا۟ مِن دِیَـٰرِهِم بِغَیۡرِ حَقٍّ إِلَّاۤ أَن یَقُولُوا۟ رَبُّنَا ٱللَّهُۗ وَلَوۡلَا دَفۡعُ ٱللَّهِ ٱلنَّاسَ بَعۡضَهُم بِبَعۡضࣲ لَّهُدِّمَتۡ صَوَ ٰمِعُ وَبِیَعࣱ وَصَلَوَ ٰتࣱ وَمَسَـٰجِدُ یُذۡكَرُ فِیهَا ٱسۡمُ ٱللَّهِ كَثِیرࣰاۗ وَلَیَنصُرَنَّ ٱللَّهُ مَن یَنصُرُهُۥۤۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَقَوِیٌّ عَزِیزٌ) (الحج: 40)