الفضاء الإلكتروني وأزمة المعايير والأخلاق

فريق العمل
فريق العمل أبريل 17, 2025
محدث 2025/04/17 at 6:19 مساءً

د. كمال أصلان – مجلة المجتمع الكويتية

     لقد أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي، أو الفضاء الإلكتروني جزءًا لا يتجزأ من حياتنا اليومية، والعالم اليوم يشهد تطورًا غير مسبوق في مجال التكنولوجيا والاتصالات، حيث وفرّت وسائل اتصال متعددة ومتنوعة، ويسهل تبادل المعلومات، وخلق فرص اقتصادية واجتماعية جديدة، ومع ذلك، فإن هذا التوسع السريع في العالم الرقمي صاحبه تحديات أخلاقية ومعيارية كبيرة، مما أدى إلى أزمة في ضوابط السلوك والقيم داخل هذا الفضاء.

     وتبرز هذه الأزمة في غياب معايير واضحة تحكم التفاعلات الإلكترونية، مما يفتح الباب أمام انتهاكات متعددة مثل: التضليل الإعلامي، وانتهاك الخصوصية، والتنمر الإلكتروني، والجرائم السيبرانية. 

     وأصبح الفضاء الإلكتروني مجالًا للتفاعل البشري غير المحدود، حيث تختلط حرية التعبير بمخاطر المعلومات المضللة، وتتصادم الخصوصية مع جمع البيانات والتحليل الرقمي، وفي ظل غياب معايير واضحة تحكم هذا الفضاء، نشأت أزمة أخلاقية وقانونية تهدد استقراره وأمن مستخدميه.

أزمة المعايير والأخلاق في الفضاء الإلكتروني

     مع توسع الفضاء الإلكتروني، نشأت مشكلات أخلاقية وقانونية عديدة تتعلق بغياب معايير موحدة تنظم سلوك المستخدمين وتحمي حقوقهم، ويمكن تلخيص هذه الأزمة في عدة محاور:

أولًا: الخصوصية وحماية البيانات:

     تعد الخصوصية من أكبر التحديات الأخلاقية التي تواجه الفضاء الإلكتروني، فمعظم المنصات الرقمية تقوم بجمع وتحليل بيانات المستخدمين لأغراض تجارية أو أمنية، مما يثير تساؤلات حول مدى احترام حقوق الأفراد في الحفاظ على معلوماتهم الشخصية، وتستخدم هذه الشركات تقنيات متقدمة لتحليل البيانات وتقديم إعلانات مخصصة، ولكن في بعض الأحيان يتم استغلال هذه البيانات لأغراض غير مشروعة، مثل بيعها لأطراف ثالثة، أو استخدامها في التلاعب بالرأي العام.

ثانيًا: المعلومات المضللة والأخبار الكاذبة:

     أدى انتشار الأخبار الكاذبة والمعلومات المضللة إلى تفاقم الأزمة الأخلاقية في الفضاء الإلكتروني، حيث يستخدم بعض الأفراد والجماعات المنصات الرقمية لنشر معلومات غير صحيحة بهدف تحقيق مكاسب سياسية أو اقتصادية، مما يؤثر على القرارات الجماعية والثقة في وسائل الإعلام. والآن يستخدم تقنيات الذكاء الاصطناعي لإنشاء محتوى مزيف، مثل مقاطع الفيديو المفبركة (Deepfake)، مما يزيد من صعوبة التحقق من صحة المعلومات، ومع غياب معايير واضحة للتمييز بين الأخبار الحقيقية والمضللة، يصبح المستخدم العادي عرضة للتأثير السلبي.

ثالثًا: حرية التعبير مقابل خطاب الكراهية:

     يُعد التوازن بين حرية التعبير ومنع خطاب الكراهية تحديًا آخر في الفضاء الإلكتروني، فعلى الرغم من أن الإنترنت يُعد منبرًا مفتوحًا للجميع، فإن بعض المستخدمين يستغلونه لنشر خطاب الكراهية، والعنصرية، والتحريض على العنف. وتسعى بعض الدول والمنظمات إلى فرض رقابة على المحتوى المسيء، ولكن هذا يثير جدلاً حول انتهاك حرية التعبير، وفي بعض الحالات، تُستخدم قوانين مكافحة خطاب الكراهية كذريعة لقمع الأصوات المعارضة.

رابعًا: إدمان الإنترنت وتأثيره النفسي:

     أدى الانتشار الواسع لوسائل التواصل الاجتماعي إلى ارتفاع معدلات إدمان الإنترنت، مما يؤثر سلبًا على الصحة النفسية والعلاقات الاجتماعية؛ فنجد أن  المستخدمين يقضون ساعات طويلة على الإنترنت، مما يقلل من التفاعل البشري الواقعي ويؤدي إلى مشاكل مثل الاكتئاب والقلق.

كما أن المحتوى الرقمي المصمم لجذب الانتباه، مثل الفيديوهات القصيرة والإشعارات المستمرة، يعزز من الإدمان ويؤثر على التركيز والإنتاجية.

الضوابط الأخلاقية لاستخدام وسائل التواصل الاجتماعي

     نظرًا للحرية التي تعطيها هذه الوسائل لمستخدمها والفضاء المفتوح أمامه، ولضعف دور رقابة الدولة، وکذلك الأسرة، في كثير من الأحيان، مما يجعلنا نعول بشکل أساسي على الوازع الديني الذاتي للمستخدم فهو خير رقيب لمن يختلي بهاتفه الذي يعد نافذة واسعة لعالم مفتوح فيه معلومات عن کل شيء، ومن أهم الضوابط الأخلاقية التي يجب أن يتحلى بها كل مسلم ومسلمة أثناء استخدام مواقع التواصل الاجتماعي: 

أولًا: إرادة الإصلاح: 

     إن من أهم الضوابط المقررة في التواصل الاجتماعي، ومن أسمى الغايات المنشودة من هذا التواصل هو إرادة الإصلاح، لذا على کل مسلم يتعامل مع مواقع التواصل الاجتماعي أن تکون نيته قائمة على تسخيرها خدمة لدين الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنکر، وتواصلًا مع من طلب الشرع التواصل معهم تحقيقًا لصلة الأرحام، أو النصح لکل مسلم، وتحقيق المصالح الدنيوية التي لا تتعارض مع الشريعة.

ثانيًا: تحري الدقة في نقل الأخبار:

     وضع ديننا الحنيف قيودًا وضوابط لنقل الأخبار، فحثّ على تحري الدقة والأمانة عند نقلها، وحذّر من الکذب في نقل الأخبار، لما لها من آثار سلبية على المجتمع المسلم، فمواقع التواصل الاجتماعي مليئة بالمعلومات والأخبار التي لا يُعرف مصدرها، في كثير من الأحيان، لذا على المسلم المتصفح لهذه الوسائل أن يکون حريصًا على عدم إعادة نشر هذه المعلومات قبل أن يتثبت من صحتها، ويعرف مصدرها.

ثالثًا: التواصل بالکلام المباح:

      من خلال الحرص على الالتزام بالآداب العامة والأخلاق الرفيعة، والتعامل بالکلمة الطيبة التي تعمل على تقوية التواصل، والابتعاد عن الألفاظ البذيئة، والسب واللعن، والتشهير بالآخرين، وتتبع عوراتهم وأسرارهم الخاصة، وتجنب الغيبة والنميمة، وتجنب کل ما يثير المشاحنة والبغضاء بين الناس والجدال إلا بالتي هي أحسن، وإلا لزم السکوت.

رابعًا: وضع ضوابط للتعارف وتجنب الخلوة:

     من أهم الضوابط الأخلاقية التي يجب أن يلتزم بها كل شاب وفتاة أثناء الحديث عبر وسائل التواصل الاجتماعي أن يکون ذلك للضرورة، وألّا يتوسعا في هذه الأحاديث، وأن يجري الحديث بينهما بمعرفة الأهل، وتحت اطلاعهم، وليس في غرف مغلقة، ولا في ظل ستار من السرية والکتمان.

حلول مقترحة لمعالجة أزمة المعايير والأخلاق في الفضاء الالكتروني

     لمواجهة أزمة المعايير والأخلاق في الفضاء الإلكتروني، يجب تبني حلول شاملة تشمل الأفراد، والشركات، والحكومات، منها:

أولًا: تعزيز التشريعات والقوانين:

     يجب أن تضع الحكومات قوانين واضحة لحماية الخصوصية، ومكافحة الجرائم الإلكترونية، وتنظيم المحتوى الرقمي دون المساس بحرية التعبير، ويمكن تحقيق ذلك من خلال:

  • فرض عقوبات صارمة على الجهات التي تنتهك خصوصية المستخدمين.
  • تطوير آليات لمكافحة الأخبار الكاذبة دون الإضرار بحرية الصحافة.
  • تحسين أمن البيانات ومنع الاختراقات الإلكترونية.

ثانيًا: تعزيز الوعي الرقمي:

     يجب تعليم الأفراد كيفية استخدام الفضاء الإلكتروني بطريقة آمنة وأخلاقية، ويمكن تحقيق ذلك عبر:

  • إدراج التربية الرقمية في المناهج الدراسية.
  • تقديم ورش عمل توعوية حول مخاطر الإنترنت، وكيفية حماية البيانات الشخصية.
  • تشجيع التفكير النقدي عند التعامل مع المعلومات الرقمية.

ثالثًا: تعزيز أخلاقيات الشركات الرقمية:

     يجب أن تتحمل الشركات التكنولوجية مسؤولية أخلاقية تجاه مستخدميها، وذلك من خلال:

  • الشفافية في جمع واستخدام البيانات.
  • تطوير خوارزميات تقلل من انتشار المعلومات المضللة.
  • تعزيز سياسات تحمي المستخدمين من المحتوى الضار.

رابعًا: تعزيز الأمن السيبراني:

     يجب أن تستثمر الدول والمؤسسات في تعزيز أمنها السيبراني، وذلك عبر:

  • تطوير أنظمة قوية للحماية من الهجمات الإلكترونية.
  • تعزيز التعاون الدولي في مكافحة الجرائم السيبرانية.
  • توعية الأفراد بأساليب الحماية الشخصية، مثل استخدام كلمات مرور قوية، وتحديث البرامج بانتظام.

خامسًا: التوازن بين الحرية والمسؤولية:

     من الضروري إيجاد توازن بين حرية التعبير والمسؤولية الأخلاقية في الفضاء الإلكتروني، ويمكن تحقيق ذلك من خلال:

  • وضع سياسات واضحة لمنع خطاب الكراهية دون قمع الآراء.
  • تعزيز ثقافة الحوار البنّاء والتسامح على الإنترنت.
  • تطوير تقنيات تمييز المحتوى الضار دون التأثير على حرية المستخدمين.

     وفي الختام أقول إن الفضاء الإلكتروني هو بيئة ثرية بالإمكانيات، لكنه أيضًا بيئة هشة تحتاج إلى ضوابط أخلاقية وقانونية، وأزمة المعايير والأخلاق في هذا الفضاء تتطلب جهودًا مشتركة من الحكومات، والشركات، والمجتمع المدني، والأفراد لضمان استخدام أكثر أمانًا وعدالة، وبدون تعزيز الأخلاقيات الرقمية، قد يصبح الإنترنت مساحة سامة تهدد استقرار المجتمعات بدلًا من أن تكون أداة للتقدم والارتقاء الإنساني.

شارك هذا المقال