د. كمال أصلان – المجتمع الكويتية
تعتبر الإدارة الجديدة في سوريا فرصة لإعادة تشكيل العلاقة بين الدولة ومواطنيها من جهة، والدولة ومحيطها الإقليمي والدولي من جهة أخرى. هذا التحول لا يأتي في سياق منعزل، بل يعكس ديناميكيات معقدة ناتجة عن عقد من الصراع والتغيرات الجيوسياسية. نحاول في هذا المقال استعراض كيفية تعامل الإدارة الجديدة مع هذه التحديات على المستويات المحلية، والإقليمية، والدولية، وما إذا كانت سوريا قادرة على أن تكون نقطة انطلاق لتحولات سياسية أوسع في المنطقة والعالم، كما يناقش الدور الذي يجب أن يلعبه السوريون لدعم الإدارة الجديدة، والمساهمة في استقرار البلاد.
الواقع المحلي: تحديات البناء الوطني
على الصعيد الداخلي، تواجه الإدارة الجديدة في سوريا مجموعة من التحديات الجوهرية:
1. إعادة الإعمار والبنية التحتية: فالحرب الطويلة تركت آثارًا مدمرة على البنية التحتية، بما في ذلك شبكات الكهرباء، والطرق، والمدارس، والمستشفيات. والأولوية للإدارة الجديدة تتمثل في وضع خطة شاملة لإعادة الإعمار، بالتعاون مع الشركاء الدوليين والإقليميين.
2. العدالة الانتقالية: فلا يمكن تحقيق مصالحة حقيقية دون معالجة انتهاكات حقوق الإنسان. وتحتاج الإدارة إلى اعتماد سياسة شاملة للعدالة الانتقالية تشمل المساءلة، والتعويضات، وضمان عدم تكرار الانتهاكات.
3. الاقتصاد وإعادة توزيع الموارد: فالاقتصاد السوري يعاني من أزمات متعددة، أبرزها التضخم، والبطالة، والانهيار المالي. وتحتاج الإدارة الجديدة إلى تطوير سياسات اقتصادية تعيد الثقة للمواطنين من خلال استثمار عادل للموارد، ومحاربة الفساد، وتحفيز القطاعات الإنتاجية.
4. إصلاح النظام السياسي: فلا بد من إصلاح مؤسسات الدولة لضمان شفافية العملية السياسية وديمقراطيتها، ويتطلب ذلك وضع دستور يتناسب مع الدولة الجديدة، وتطوير القوانين، وتفعيل دور المجتمع المدني.
5. إعادة بناء النسيج الاجتماعي: فقد أحدثت الحرب شرخًا عميقًا في العلاقات بين الطوائف والمكونات السورية، وتحتاج الإدارة إلى برامج شاملة لتعزيز التعايش السلمي، وبناء الثقة بين جميع الأطراف.
الإطار الإقليمي: التحديات والفرص
تلعب سوريا دورًا مركزيًا في الإقليم، وتحتاج الإدارة الجديدة إلى التعامل مع الملفات الإقليمية بحذر وواقعية:
1. علاقات متوازنة مع الجيران: من الهمية بمكان أن تسعى الإدارة الجديدة إلى تطبيع العلاقات مع الدول المجاورة مثل تركيا، والأردن، والعراق، بما يضمن أمن الحدود، وتعزيز التعاون الاقتصادي.
2. إعادة التوازن في التحالفات: فمن المتوقع أن تحافظ الإدارة على علاقات استراتيجية مع روسيا وإيران، ولكنها قد تسعى أيضًا لتحسين العلاقات مع الدول العربية، والخليجية لإعادة الاندماج في النظام الإقليمي.
3. ملف اللاجئين: عودة اللاجئين السوريين تمثل ملفًا حيويًا، وستحتاج الإدارة إلى توفير ضمانات أمنية واقتصادية لتشجيع اللاجئين على العودة.
4. الصراعات الإقليمية: الدور السوري في الصراعات مثل القضية الفلسطينية، واليمن يمكن أن يكون جزءًا من جهود إعادة التموضع الإقليمي.
السياق الدولي: التعامل مع القوى الكبرى
على الصعيد الدولي، الإدارة السورية الجديدة ستواجه تحديات وفرصًا من خلال التعامل مع القوى الكبرى:
1. علاقات متوازنة مع روسيا وأمريكا: استمرار التعاون مع روسيا يمثل أولوية نظرًا لدعمها العسكري والسياسي، ولكن قد تسعى الإدارة إلى فتح قنوات تواصل مع الغرب لتحسين العلاقات ورفع العقوبات.
2. إعادة الاندماج في المجتمع الدولي: تحتاج سوريا إلى مبادرات دبلوماسية لإعادة بناء صورتها الدولية، ويتطلب ذلك التزامًا بإصلاحات سياسية، واقتصادية، واحترام حقوق الإنسان.
3. الاستفادة من التغيرات العالمية: التنافس بين القوى الكبرى، مثل الصين والولايات المتحدة، قد يوفر فرصًا لسوريا للاستفادة من استثمارات، أو تحالفات جديدة.
الدور المطلوب من السوريين لدعم الإدارة الجديدة
إن نجاح الإدارة الجديدة في سوريا يعتمد بشكل كبير على مدى تعاون الشعب السوري معها، سواء داخل البلاد، أو في الخارج، فالمواطنون هم الشريك الأساس في بناء مستقبل مستقر ومزدهر، ويتطلب ذلك دورًا فعّالًا وشاملًا في مختلف المجالات السياسية، والاجتماعية، والاقتصادية، وفيما يلي أبرز الأدوار المطلوبة من السوريين لدعم الإدارة الجديدة:
1. المشاركة في العملية السياسية: يُعتبر الانخراط في العملية السياسية أحد أهم الوسائل لدعم الإدارة الجديدة، وعلى السوريين المشاركة بفعالية في الانتخابات المحلية والوطنية، سواء بالتصويت أو الترشح، لتعزيز الديمقراطية وضمان تمثيل جميع فئات الشعب، كما يجب على المواطنين دعم المبادرات التي تهدف إلى الإصلاح السياسي، بما في ذلك مراجعة الدستور، وتعزيز دور المؤسسات التشريعية والقضائية.
2. تعزيز المصالحة الوطنية: أحد أهم التحديات التي تواجه الإدارة الجديدة هو إعادة بناء النسيج الاجتماعي الذي تعرض للتمزق بسبب سنوات الحرب، ويمكن للسوريين دعم هذه الجهود من خلال نبذ الكراهية، والخلافات الطائفية، والعرقية، والعمل على تعزيز ثقافة التسامح والتعايش المشترك، كما أن المشاركة في برامج المصالحة الوطنية، والمساهمة في تعزيز الحوار بين مختلف المكونات تمثل خطوة أساسية لتحقيق السلام والاستقرار.
3. المساهمة في إعادة الإعمار: إعادة إعمار سوريا تتطلب جهودًا جماعية واستثمارات ضخمة، وهنا يأتي دور السوريين، خاصة المغتربين منهم، ويمكن للمواطنين المساهمة في إعادة الإعمار من خلال الاستثمار في القطاعات الحيوية مثل الزراعة، والصناعة، والبنية التحتية، كما يمكنهم دعم المبادرات المحلية التي تهدف إلى تحسين الخدمات الأساسية مثل التعليم، والرعاية الصحية.
4. دعم الاقتصاد الوطني: التحديات الاقتصادية التي تواجه سوريا تستدعي من السوريين العمل على تنشيط الاقتصاد الوطني من خلال المشاريع الصغيرة والمتوسطة، وتشجيع الصناعات المحلية، وتطوير قطاع الزراعة الذي يُعد من أهم القطاعات الإنتاجية، بالإضافة إلى ذلك، يمكن للمغتربين تحويل مدخراتهم إلى استثمارات داخل البلاد، والمساهمة في تعزيز العملة المحلية.
5. دعم الجهود الدبلوماسية: السوريون في الخارج لديهم دور كبير في تحسين صورة البلاد على الساحة الدولية، ويمكنهم التواصل مع الحكومات، والمجتمعات التي يعيشون فيها لتعزيز الدعم لسوريا، والمساهمة في رفع العقوبات المفروضة عليها، كما يمكنهم المشاركة في المؤتمرات الدولية، والإعلام لتوضيح تطلعات الشعب السوري، والمساهمة في بناء شراكات دولية تساهم في إعادة الإعمار.
6. الرقابة والمساءلة: من المهم أن يشارك السوريون في مراقبة أداء الإدارة الجديدة لضمان التزامها بالإصلاحات المطلوبة، ويمكن للمجتمع المدني، والنشطاء العمل على تعزيز الشفافية من خلال متابعة تنفيذ السياسات الحكومية، وتقديم ملاحظات بنّاءة تساهم في تحسين الأداء العام.
7. تعزيز التعليم والثقافة: نشر الوعي وبناء جيل جديد يتبنى قيم التسامح، والمواطنة يُعتبر من أهم المهام، ويمكن للسوريين دعم التعليم من خلال التطوع في المبادرات التعليمية أو تمويلها، والعمل على ترسيخ ثقافة حقوق الإنسان والحوار.
أقول: إن دعم السوريين للإدارة الجديدة ليس مجرد واجب وطني، بل هو شرط أساس لتحقيق الاستقرار والازدهار، حيث تمثل الإدارة الجديدة في سوريا فرصة حقيقية لبناء دولة قوية ومتوازنة داخليًا وخارجيًا، ونجاح هذا المشروع يعتمد على رؤية القيادة الجديدة، ودعم السوريين، والتفاعل الذكي مع المتغيرات الإقليمية والدولية.
إن سوريا، بتاريخها وموقعها الجيوسياسي، قادرة على أن تكون بداية لتحولات سياسية أوسع، ولكن هذا يتطلب إرادة حقيقية للتغيير، وشراكة وطنية ودولية صادقة.