د. كمال أصلان – مدونة العرب
فكرة البناء الحضاري في القرآن الكريم تؤكد أن الإنسان هو خليفة الله في الأرض، مأمور بتعميرها، وبناء الحضارات فيها على أساس المبادئ التي دعا إليها الله، تبارك وتعالى، في كتابه العزيز.
وعند تحقق هذا الاستخلاف في الأرض، كما يريده الله، فسيكون استخلافًا راشدًا، مصحوبًا بالقدرة على إعمار الأرض وإصلاحها، لا استخلافًا قائمًا على الهدم والإفساد، وسيكون تمكينًا يحقق العدل والطمأنينة، لا تمكينًا يقوم على الظلم والقهر، وسوف يسمو هذا الاستخلاف بالنفس البشرية، والنظام البشري نحو السماء، متعاليًا بالفرد والجماعة عن مدارج الحيوان، والدونية!
أما الذين يملكون فيفسدون في الأرض، وينشرون فيها البغي والجور، وينحدرون بالإنسانية إلى مدارج الحيوان، فهؤلاء ليسوا مستخلفين، إنما هم مُبْتَلون بما هم فيه من نعيم أو مُلك، أو مُبْتَلَى بهم، ممن يُسلطون عليهم لحكمة يقدّرها الله، وعند تَمَلُّك هؤلاء المفسدين، فإن النكسة ستتحقق للبشرية؛ لأن هؤلاء المفسدين غالبًا ما يُحكِّمون أهواءهم، ويتبعون نزواتهم، ويعملون لحساب أنفسهم: )وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ( (المؤمنون: 71).
إن التمكين في الدين الإسلامي ليس بالانتصار على الأعداء فحسب، ولا بالقضاء على معتنقي الأديان الأخرى، فيما يبدو لنا من أعمال معتنقيها، وكذلك ليس في اغتصاب الأرض، وطرد أهلها منها، كما هو حادث اليوم على أرض المسلمين في شتى بقاع الأرض، وخصوصًا في فلسطين، بل الانتصار الحقيقي هو انتصار عقيدة المؤمن في نفسه أولًا، فقد يفارق المسلم الحياة، ولم ير ثمرة من ثمار عمله، ولم ير نصرًا على أعداء الله، لكنه في الحقيقة انتصر؛ لأن صور النصر شتى، وقد يتلبس بعضها بصور الهزيمة عند النظرة القصيرة، أما النظرة الكلية للواقع الذي نعيشه، مع الأخذ بكل أسباب القوة، والسعي للشهود الحضاري، فستختلف النتيجة، وستتحقق الثمرة، ولو بعد حين، لأننا في النهاية مسؤولون عن الفعل والعمل، لا النتائج والمآلات، بشرط أن نسير في الطريق الصحيح.
ويمكن أن نجمل سبب غياب الوعي عن المنهج السنني الذي رسمه لنا الإسلام فيما يلي:
ضعف البصيرة بحقيقة الدين، والجمود الفكري الذي أصاب المسلمين، وهذا أدى إلى الانبهار بالآخرين، لأننا لا نملك شيئًا، وإن اختلفت حضارتنا ومعالمها عن حضارتهم ومعالمها، وهؤلاء المنبهرون بدورهم دعوا إلى التقليد، وفي كثير من الأحيان دعوا إلى التقليد الأعمى، وتلك الحضارة التي أخذت عقولنا حضارة مادية قادتنا إلى الانغماس في المادة، والحياة المادية بما فيها من شهوات، وملذّات تغرس في قلوب أبنائها حب الدنيا، وحب الدنيا يجعل الكل حريصًا على ما في يده، بخيلاً به على غيره، فيكون التفرق والتشرذم، ويصبح بأس الأمة بينها شديد، وهذا ما حذّر منه النبي، صلى الله عليه وسلم، حيث قال: (يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها). فقال قائل: أومن قلة نحن يومئذ؟ قال: (بل أنتم يومئذ كثير؛ ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن الله في قلوبكم الوَهْن. فقال قائل: يا رسول الله وما الوَهْن؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت).
ويأتي تفرُق الأمة وتمزقها الذي أفقدها وحدتها، وهدفها، وأدى إلى ضعفها وهوانها، ويأتي ذلك بسبب أنها لا تملك رؤية واضحة، رغم أننا نجد وضوح هذه الرؤية عند النبي، صلى الله عليه وسلم، حين قال: (ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر، ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين، بعز عزيز، أو بذل ذليل، عزًا يعز الله به الإسلام، وذلا يذل به الكفر)، لكن الأمة فقدت هذه الرؤية، فباتت قطعانًا كقطعان الغنم يرعاها ذئاب لئام لا همَّ لأحدهم إلا شِبَع بطنه وملء جَيْبه، وتحقيق مصالحه، بل وصل بالبعض السعي بكل الوسائل لتحقيق أهداف، ومصالح أعداء الأمة.
علينا إذن إعادة شخصيتنا الإسلامية الواعية والكامنة في نفس كل منّا، وتنتظر لحظة الانطلاق، لتشع على حياتنا قوة، ومنعة، وإبداعًا، ولن يكون ذلك بإصلاحات جزئية لمناطق الخلل في المجتمع، بل بإدراك المفهوم الإسلامي الصحيح لأهمية الدين في حياتنا، وسلوكنا، وعلاقاتنا الاجتماعية، التي هي وليدة الدين كحضارة، وكنظام اجتماعي، وكأسلوب شامل للحياة.
نحن في حاجة مُلحة إلى رؤية سياسية، ورؤية اقتصادية، ورؤية اجتماعية، ورؤية عسكرية، ورؤية تعليمية، ورؤية تجارية، ورؤية رياضية، ورؤية إعلامية؛ وهذا يدفعنا إلى إعادة هيكلة المجتمع العربي والإسلامي هيكلة كاملة في إطار قيمنا الإسلامية على ضوء تكنولوجيا العصر، مع الاستفادة بما وصل إليه الآخرون، دون تغيير هويتنا وثقافتنا، فالحكمة ضالة المؤمن أنّى وجدها فهم أحق الناس بها.