د. جمال نصار – الشرق القطرية
من الصفات التي يجب أن يتحلى بها المسلم صفة الورع عن الحرام، فيترك كل ما يضره في الآخرة من المُحرم، والوسيلة إليه، فكل ما يشك المؤمن فيه يتركه، وينتقل إلى ما لا يشك فيه، قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: (دع ما يَريبكَ إلى ما لا يَريبُكَ، فإنَّ الصِّدقَ طُمأنينةٌ وإنَّ الكذبَ رِيبةٌ).
وقال الحسن البصري: أفضل العبادة التفكر والورع.
ومنشأ خُلق الورع من الخوف والخشية من الله فهو ثمرته وفائدته، وكلما زاد الخوف في قلب المؤمن كلما زاد ورعه وتوقيه مما يضره في الآخرة، وكلما نقص الخوف في قلب المؤمن نقص ورعه وخاض في المحرمات وتساهل في أسبابها.
ويدخل في معنى الورع ترك الشبهات في أمور الدنيا التي يختلط فيها الحلال والحرام، ولا يمكن تمييزها فيخشى متعاطيها من الوقوع في الحرام كما في حديث النعمان بن بشير قال: سمعت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يقول: (إنَّ الحلالَ بيِّنٌ وإنَّ الحرامَ بيِّنٌ وبينهما أمورٌ مُشتبِهاتٌ لا يعلمهنَّ كثيرٌ من الناس فمنِ اتَّقى الشُّبُهاتِ استبرأ لدِينِه وعِرضِه، ومن وقع في الشُّبهاتِ وقع في الحرامِ، كالراعي يرعى حول الحِمى يوشكُ أن يرتعَ فيه، ألا وإنَّ لكلِّ ملكٍ حمًى، ألا وإنَّ حمى اللهِ محارمُه).
ويدخل في المتشابهات المال المختلط بالحرام من مسروق، وربوي، ومغشوش، والعقار المشتبه فيه، والطعام المشتبه في حرمته، واللباس المشتبه في تحريمه، والمعاملات المالية المشتبه فيها، والنكاح المشتبه فيه، وغير ذلك من أمور الدنيا التي يختلف الفقهاء في حرمتها وحلها.
ومن مواطن الورع الكفّ عن أعراض المسلمين، وعدم الخوض في نقائصهم وعيوبهم الشخصية، قال تعالى: (مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيد)ٌ، وقال تعالى: (وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ).
ومن الأبواب العظيمة التي أعمل فيها السلف الصالح الورع باب الفتوى، والقول على الله بلا علم فقد كان أئمة العلم يتورعون عن الفتوى بلا علم، وتثبّت ونظر في العواقب لا سيما في مسائل الدماء والفروج والفتن، وكانوا كثيرًا ما يستروحون بكلمة (لا أعلم)، ولذلك قال عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه: “والله إن الذي يفتي الناس في كل ما يسألونه لمجنون”.
وقد كان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، سيد أهل الورع كافًا عن المحرمات التي حرّمها ربنا مبالغًا في ترك الشبهات، فلا يدخل جوفه إلا حلالا، ولا يُطعم أهله إلا من الكسب الطيب شديد التورع عن كل ما يُخشى منه.
ومن قله فقه المبتدع وضعف بصيرته أن تجده ورعًا في أمر الدنيا متنزِّهًا عن المكاسب المشتبهة، لكنه منحرف في باب اتباع السنة لا يتوقى قبول البدع والخرافات عن الأصاغر، ويبني مذهبه على الروايات الواهية، والقصص المنكرة لا يتحرى لدينه كما يتحرى لدنياه.
ومن الورع الكاذب المخالف لمنهج السلف الصالح السكوت عن أهل البدع ومداهنتهم في الباطل وإكرامهم قيل للإمام أحمد بن حنبل: الرجل يصوم ويصلي ويعتكف أحب إليك أو يتكلم في أهل البدع؟ قال: (إذا قام وصلى واعتكف فإنما هو لنفسه، وإذا تكلم في أهل البدع فإنما هو للمسلمين، هذا أفضل).
والورع مع القيام بالفرائض يدل على التدين الصحيح والعبودية لله، وليس كما يظن بعض الجهال أن العبودية الحقة تُنال بكثرة النوافل، قال حبيب ابن أبي ثابت: “لا يعجبكم كثرة صلاة امرئ ولا صيامه، ولكن انظروا إلى ورعه، فإن كان ورعًا مع ما رزقه الله من العبادة فهو عبد لله حقًا”، ولذلك كثير من الناس يقوى على الفضائل وقليل منهم من يقوى على الورع.
ومما يعين المرء على خُلق الورع أن يستحضر خطر الوقوف بين يدي الله عز وجل، ومسائلته يوم القيامة قال تعالى: (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) (البقرة: 281)، والاشتغال بعيوب النفس عن عيوب الناس والتوبة من الذنب يثبِّت الورع في القلب.
سُئل إبراهيم بن أدهم: بم يتم الورع؟ قال: “باشتغالك عن عيوب الخلق بذنبك، وعليك باللفظ الجميل من قلب ذليل لرب جليل، فكّر في ذنبك، وتب إلى ربك يَثْبت الورع في قلبك”.