د. جمال نصار – عربي21
جاء في معاجم اللغة أن الفكر هو إعمال النظر في الشيء، أو بمعنى آخر أن الفكر هو حركة الذهن، وكما أورد الجرجاني (ت 816ه) في تعريفاته: “الفكر ترتيب أمور معلومة للتأدّي إلى المجهول”، أي أنه الطريقة أو المنهجية التي يسلكها العقل في البحث والنظر للوصول إلى المجهول من الحقائق، ويمكن القول بأنه التصور الإجمالي والتفصيلي لواقع ما من حيث كنهه، وعوامل تكوينه، ومآلاته، وطرق تحسينه، وعلاج آفاته.
وقد ورد في كتاب الله تعالى قوله، عز وجل: (وَیَتَفَكَّرُونَ فِی خَلۡقِ ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ رَبَّنَا مَا خَلَقۡتَ هَـٰذَا بَـٰطِلا سُبۡحَـٰنَكَ فَقِنَا عَذَابَ ٱلنَّارِ) (آل عمران: 191).
قال ابن كثير: أي يفهمون ما فيهما من الحكم الدالة على عظمة الخالق وقدرته، وعلمه وحكمته، واختياره ورحمته، وقال أبو سليمان الداراني: إني لأخرج من منزلي، فما يقع بصري على شيء إلا رأيت لله علي فيه نعمة، أو لي فيه عبرة، وعن الحسن البصري أنه قال: تفكر ساعة خير من قيام ليلة، وقال سفيان بن عيينة: الفكرة نور يدخل قلبك.
وعليه يمكن القول إن منهجية التفكير تعني تحرر العقل في بحثه ونظره من المؤثرات العاطفية، بأن يعطي الإنسان لعقله حرية العمل والحركة، ولا يقيده برغباته العاطفية والمصلحية، ليقوم العقل بدوره خير قيام، وليؤدي وظيفته على أحسن وجه، ويستطيع الإنسان بعد ذلك أن يعتمد على حكم عقله، وأن يثق بحصيلة فكره.
لذا نجد أن للفكر والتفكير أهمية كبيرة في نمو الحياة أو ارتكاسها، كما ذكر الدكتور عبد المجيد النجار، فبقدر ما يكون الفكر سليمًا في التزامه بقواعد النظر الصحيح بقدر ما يكون موصلاً إلى الحق الذي يُنمّي الحياة، ويحدث العكس بالعكس. وهو ما نبه إليه القرآن الكريم بطرق شتى، وبيانات مباشرة، وغير مباشرة في طرفي السداد والفساد، كما قال تعالى في الطرف الأول: (فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) (آل عمران: 137)، إشارة إلى منهج التقصّي الواقعي للآثار للوصول إلى العبرة بمآلات المعاندين المكذبين، وكما قال تعالى في الطرف الثاني: (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنْ وَالْإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنُ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَّا يَسْمَعُونَ بِهَا أَوْلَيْكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُم أَضَلُّ أُولَيكَ هُمُ الْغَفِلُونَ) (الأعراف: 179).
وإنّما شابه هؤلاء الأنعام لعدم توجيه عقولهم في المنهج الصحيح من التفكير، فهم مثلها في أنها لا تقيس الأشياء على أمثالها، ولا تنتفع ببعض الدلائل العقلية، فلا تعرف كثيرًا مما يُفضي بها إلى سوء العاقبة.
وإذا تأملنا الحضارة الإسلامية في دورتها الأولى نجد أنها كانت ثمرة في وجه من وجوهها لثورة منهجية في الفكر الإنساني أحدثها في العقول التوجيه القرآني بأسس جديدة للتفكير أسسها في تلك العقول، لعل من أبرزها قاعدة الواقعية التي بها يسلك العقل في البحث عن الحقيقة مسلك التقصي للواقع الكوني والإنساني، ومن ثم نشأت العلوم التجريبية والاجتماعية التي نهضت بالتحضّر الإسلامي إلى الذروة، بل وكانت سببًا في التحضر الغربي القائم اليوم، وقد كان الفكر الإنساني من قبل غارقًا في مسلك اليونان المتنكّب عن الواقع والموغل في التجريد، أو في المسلك الغنوصي المتنكب عن الواقع أيضًا والموغل في التروحن، كما قال محمد إقبال.
والمتأمل في الوضع الإسلامي اليوم من حيث منهجية التفكير التي عليها المسلمون يدرك بحق أن الأزمة التي تعانيها الأمة الإسلامية هي في قدر كبير منها أزمة فكرية تتمثل في عطالة الفكر الإسلامي عن إنتاج سبل التنمية، وعطالته بالتالي عن إحداث النهضة؛ ذلك أن هذا الفكر أصابه من الانحراف عن خصائصه الأصيلة التي تكونت بالدفع القرآني ما عطّل فيه القدرة على تبين المسالك الصحيحة سواء في مستوى الفهم لإدراك الحقيقة النظرية، أو في مستوى التخطيط لرسم المشاريع العملية.
إذا كان الأمر كذلك فإن جسم هذه الأمة لا تدبّ فيه الحياة الحضارية إلا بتسديد الفكر الذي يرسم طريق حياتها، ويوجه سيرها، وكيف لسفينة أن تقلع بأمان وربّانها لا يملك من خصال الخبرة ما يقدر به على أن يوجهها الوجهة الصحيحة للإقلاع؟!
وتسديد الفكر الإسلامي يتمثل بصفة عامة في صياغته مجددًا على خصال منهجية يمارس من خلالها البحث والتوجيه والمعالجة لشؤون الأمة، بحيث تكون تلك الخصال أُسسًا ثابتة فيه يصدر عنها صدورًا أصليًا لا صدورًا عارضًا يثبُت حينًا ويتخلّف حينًا آخر.
ولا شك أن ذلك يستلزم تربية للعقل طويلة الأمد حتى تصير تلك الخصال مطبوعة فيه فيكون الفكر إذن متكيفًا، بحسبها، ولكن هذه التربية لیست بعسيرة المنال في الوقت القصير لو وجهت همم المربين والدعاة والمفكرين لتنشئة العقول عليها، ألا ترى كيف أن التربية القرآنية صاغت عقول المسلمين في بضع سنين على تلك الخصال، فتوجّه الفكر وجهته التي قلب بها الحياة إلى ما نعلم من الشهود الحضاري.
وإذا كانت الخصائص التي من شأنها أن تسدّد الفكر ليصل إلى الحق، ويرسم طرق النجاح متعدّدة المظاهر ومتنوعة في طبيعتها، فإنها في معرض تعدّدها وتنوعها ترجع إلى جملة من الخصائص الأساسية التي إذا تحققت مجتمعة ضمن الفكر بها أن يسلك المسلك الصحيح المثمر في علاج واقع الأمة، فتكون وصفاته العلاجية قادرة على أن تشيع العافية في هذا الواقع، فتدب الحركة الحضارية فيه من جديد. وهذا ما سنتناوله في المقال القادم بحول الله.