د. جمال نصار – مجلة المجتمع الكويتية
أفلاطون هو فيلسوف يوناني ولد في (427 ق.م) بمدينة أثينا لأسرة أرستقراطية، وعاش حتى بلغ الثمانين، وتوفي في (347 ق.م) وكان بحكم مولده شديد التطلع إلى الحكم، وقد مارس محاولات عديدة في هذا الصدد باءت كلها بالفشل فصُدم في الواقع، ثم كانت صدمته الثانية عندما قامت حكومة أثينا بإعدام سقراط الذي كان يمثل بالنسبة له الأستاذ، ومثله الأعلى، وأرجح الرجال عقلاً في زمانه.
ونظرًا لهذه الصدمات وغيرها راح أفلاطون ينصرف عن الواقع ويتجه بفكره إلي عالم الروح (عالم الميتافيزيقا أو عالم ما وراء الطبيعة)، فيقول: “لا حقيقة في العالم المادي المحسوس (عالم الواقع) وإنما الحقيقة هي من شأن عالم الروح السابق على عالم المادة (الميتافيزيقا)”، وقد زار أفلاطون ما يعرف الآن بمنطقة الشام حيث ازدهرت الحضارة الفينيقية في زمنه، وانتشرت ديانة التوحيد (اليهودية وقتذاك)، حيث تأثر أفلاطون بهذه السياسة لذلك يُنقل عنه أنه قال برغم أنه ابن لحضارة وثنية: “إن ثمة إلها واحدًا أبدع الكون، وخلق البشر، وألهمهم القيم”. هكذا كان لبيئته، ونشأته الأثر البالغ في منهجه، وفكره السياسي.
جذور الفلسفة المثالية لدى أفلاطون
الفلسفة المثالية من أقدم الفلسفات في الثقافة الغربية، وترجع جذورها التاريخية إلى الفيلسوف الإغريقي أفلاطون الذي اعتبره مؤرخو الفلسفة ونقادها أبًا لها على الرغم من وجود فكر فلسفي وفلاسفة قبله. لقد آمن بالثنائية، أي بوجود عالمين: العالم الحقيقي، وهو عالم الأفكار العامة الحقيقية الثابتة (عالم المُثل)، والعالم الآخر، وهو عالمنا الذي نعيش فيه وهو ظل للعالم الحقيقي.
والفلسفة المثالية نشأت ملائمة لعصرها، فالنظام الاجتماعي – الاقتصادي الذي كان قائمًا في مدينة أثينا في ذلك الوقت كان قائمًا على التقسيم الطبقي للمجتمع إلى ثلاث طبقات: طبقة الأحرار، وطبقة المحاربين، وطبقة العبيد، وكانت التربية الحرة مقصورة على الأحرار التي لا تنظر نظرة احترام إلى العمل اليدوي.
وكان لهذه الفلسفة تأثير كبير على حياة الشعوب، وساعدت الديانتان اليهودية والمسيحية على انتشار الأفكار المثالية على نطاق واسع. ولا يزال أثرها قويًا في أعمال المفكرين، والأدباء، ورجال الإصلاح، والسياسيين، ورجال التربية.
الفكر السياسي عند أفلاطون
يعتبر أفلاطون رائد المنهج الفلسفي المثالي، ويمثل فكره نموذجًا لمنهج فلسفي مثالي (استنباطي) يبدأ عملية المعرفة من مقدمات ميتافيزيقية، ثم يدخل عليها سلسلة من عمليات الاستنباط (أو التدليل العقلي)، مستهدفًا الكشف عمّا يجب أن يكون عليه المجتمع (الواقع) حتى يكون مثاليًا فاضلاً.
وقدّم ثلاث محاورات (كتب) في مجال الفكر السياسي، ومن خلال مدرسته المعروفة بالأكاديمية، وتتمثل هذه المحاورات في: الجمهورية، والسياسي، والقوانين.
محاورة الجمهورية
قدّم فيها صُلب فكره السياسي المعروف بنظرية المُثل، ولعل أهم أفكاره في هذه المحاورة فكرة المدينة الفاضلة، وقد أسس أفلاطون مدينته الفاضلة ارتباطًا بمسلمتين هما:
- الفضيلة هي المعرفة.
- تقسيم العمل هو أنسب السبل لنجاح الحياة الاجتماعية (للرجل الواحد وظيفة واحدة).
وبنى المدينة هذه على منوال جسم الإنسان معتبرًا أن هذا الجسم هو خَلْق مثالي لأن الله هو الذي خلقه، وبالتالي فقد خلقه على فضيلة ومثالية، والإنسان في تصور أفلاطون هو ذكاء وطاقة وأعضاء، وبناءً عليه، فإن المدينة الفاضلة يجب في رأيه أن تتكون من ثلاث طبقات هي:
الفلاسفة (وتقابل الذكاء في جسم الإنسان).
المحاربون (وتقابل الطاقة في جسم الإنسان).
الحرفيون (وتقابل الأعضاء في جسم الإنسان).
ثم يُقسّم أفلاطون العمل بين الطبقات الثلاث كالتالي:
الحرفيون؛ فوظيفتهم هي القيام بعملية الإنتاج لمد أفراد المدينة بما يلزم من غذاء وملبس…إلخ.
والمحاربون؛ فتنحصر وظيفتهم في الدفاع عن أرض المدينة (أي الحرب)، ولا يحق لهم التدخل في أمور السياسة والحكم (ما نسميه اليوم الاحتراف العسكري).
أما الفلاسفة (ونظرًا لأن الفضيلة هي المعرفة)؛ فوظيفتهم الحكم، لأنهم هم الحكماء القادرون بعقولهم الراجحة على الوصول بسفينة المدينة إلى بر الأمان، فيقول: “على الفلاسفة أن يكونوا ملوكًا، وعلى الملوك أن يكونوا فلاسفة”، ويقول كذلك: “لن ترى المدن (أي الدول) خيرًا ما لم يُصبح الفلاسفة ملوكًا، أو يتشبع ملوك هذه الدنيا بروح الفلسفة”، وعلى ذلك فإن أمثل أشكال الحكومات عند أفلاطون هي “حكومة الفلاسفة”، وهي حكومة مطلقة لا تتقيد بأي قانون، لأن تقييد الفلاسفة بقانون يعني وضع قيود على إبداعهم، وعبقريتهم، وعقولهم المستنيرة، وبالتالي الحد من قدراتهم الفذة على الحكم. فالقانون في رأي أفلاطون هو” كالرجل الأحمق الذي لا يغير رأيه مطلقًا مهما كان خاطئًا”.
وبالنسبة للكيانين الاقتصادي والاجتماعي للمدينة ظهر في محاورة الجمهورية ما يُعرف بشيوعية أفلاطون حيث رفض أفلاطون نظام الملكية الخاصة لأنها تصرف الناس عن الاهتمام بالصالح العام، فلا يهتمون إلا بممتلكاتهم.
كما رفض أفلاطون نظام الأسرة لأنه سيشغل الناس بأبنائهم وزوجاتهم عن الآخرين من أبناء المدينة. وهكذا جاءت أفكار أفلاطون في محاورة الجمهورية بعيدة عن الواقع مُحلِّقة في عالم الخيال.
محاورة السياسي
يعتبر أهم ما قدمه أفلاطون في هذه المحاورة من فكر سياسي هو قوله بأن السياسة علم وفن، بالإضافة إلى تعريف للسياسي، أما علم السياسة فيعرفه بأنه: القدرة على العودة إلى عالم الروح واستلهام حقائق الحكم منه.
أما فن السياسة عند أفلاطون فهو: حكم الناس عن غير طريق الإكراه، أي حكم الناس برضاهم.
محاورة القوانين
قدَّم أفلاطون محاورته هذه في أواخر حياته، وبعد فشل محاولات عديدة لتطبيق فكره في بعض المناطق، لذلك نجده قد تخلى عن بعض مثاليته في هذه المحاورة، فمثلاً قال إنه يمكن أن يحكم الفلاسفة استنادًا إلى قوانين، ولكنه اشترط أن تضع هذه القوانين جمهرة الفلاسفة، وبالنسبة للكيانين الاقتصادي والاجتماعي للمدينة تراجع عن الشيوعية، وقال بأن الواقع يفرض ضرورة الأخذ بنظام الملكية الخاصة، ونظام الأسرة، وهكذا جاءت أفكار أفلاطون في محاورته الأخيرة متصالحة إلى حد ما مع الواقع الذي كان يرفضه تمامًا في محاورته الأولى (الجمهورية).
والخلاصة
أن أفكار أفلاطون يمكن أن تتماشى مع ما يحدث في العصر الحالي، الذي تكون فيه الدولة قائمة على أساس طبقي يتمتع فيه الحاكم بأفضلية على باقي طبقات الشعب، إلا أن ما يختلف هو ارتكاز حكيم وفيلسوف مدينة أفلاطون على الأخلاق، وضرورة التحلي بالعدل، والتعاون لأجل نشرِ الفضائل، قد يبدو الأمر مثاليًا، لكنه في جوانب معينة يربط السياسة بفعل إنساني توثقه قيم أخلاقية لا نجدها في وقتنا الحالي، وهذا ما يبرر النفور الحاد من السياسة التي شوه معالمها ممارسوها بعيدًا عن الفضائل التي تطرق لها أفلاطون.