د. جمال نصار – عربي21
جرت الانتخابات التركية يوم الأحد الموافق 14مايو/ أيار 2023 في أجواء تنافسية شديدة، وانتظر الجميع أن تُحسم الانتخابات الرئاسية في الجولة الأولى كما هو معتاد، ولكن لقوة المنافسة، فقد تم تأجيلها للجولة الثانية لعدم حصول كل من الرئيس أردوغان (49.51٪)، وكمال كليتشدار أوغلو (44.88٪) مرشح المعارضة على نسبة 50٪ + صوت واحد.
واللافت لكل المتابعين أن هذه الانتخابات هي الأولى من نوعها في تاريخ تركيا الحديث الممتد على مدار 100 عام بنسبة مشاركة عالية، حيث بلغ عدد الناخبين 86.99٪ ممن يحق لهم الانتخاب، وكانت أعلى نسبة بمشاركة 55.8 مليون مواطن ومواطنة، من أصل 60 مليونًا و697 ألفا و843 ناخبًا، منهم 4 ملايين و904 آلاف و672 ناخبًا يصوتون لأول مرة.
وقد أدلى الأتراك بأصواتهم في أكثر من 191 ألف صندوق اقتراع في 81 ولاية من أجل انتخاب رئيس جديد لمدة 5 سنوات، واختيار أعضاء البرلمان البالغ عددهم 600 نائب، وقد خاض السباق الانتخابي 24 حزبًا سياسيًا، و151 مرشحًا مستقلاً، بينما دخلت بعض الأحزاب السياسية السباق في 5 تحالفات مختلفة: “الجمهور، والشعب، والأجداد، والعمل والحرية، واتحاد القوى الاشتراكية”، وحصل تحالف العدالة والتنمية على 322 مقعدًا، وتحالف المعارضة الأبرز (الشعب الجمهوري ومن معه) على 213 مقعدًا، وتوزعت باقي المقاعد على مجموعة من الأحزاب والتحالفات الصغيرة.
وستجرى الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية في 28 مايو/ أيار الحالي داخل تركيا، وفي الخارج بين 20 – 24 من نفس الشهر، ويُعوّل كلا المتنافسان الرئيس أردوغان، ومرشح المعارضة كمال كليتشدار أوغلو على الفوز في هذه الجولة الحاسمة.
كيف لديكتاتور أن يشارك في جولة إعادة؟!
في الفترة التي سبقت الانتخابات في تركيا، هاجت وماجت الأقلام الغربية، مدفوعة بالسياسات البغيضة التي تكيل بمكيالين، وتدّعي أنها تحمي حمى الديمقراطية في العالم، واتهموا الرجل بأنه ديكتاتور، ولا بد من التخلص منه، لأنه يشبه بوتين، وأنه سيبقى مدى الحياة، وأنه عقبة كؤود في تحقيق الديمقراطية، ومن ثمّ دعوا الشعب التركي للتغيير الذي يدعم ديمقراطيتهم. والحقيقة أنهم يكرهون الرجل لأنه لا يحقق لهم مصالحهم كما يحبون، ومن ثمّ يدعمون معارضيه للتخلص منه بأي شكل من الأشكال.
والغريب أن هذا الوصف لا يمكن أن ينطبق في الواقع السياسي التركي، لأن المعروف عن الديكتاتور أنه يحصل في الانتخابات، في الغالب، على النسبة المشهورة في العالم العربي ما فوق 95٪، وهذا ما لم يحدث في تاريخ حزب العدالة والتنمية الانتخابي بشكل خاص، وفي تركيا بشكل عام.
ونجد في المقابل أنهم يدعمون أنظمة مستبدة في العالم، منها، بطبيعة الحال، دول سلطوية مثل سوريا التي قتل حاكمها ما يقرب من مليون مواطن، وهجّر الملايين، وليس بعيدًا عن ذلك، أيضًا، ما حدث في مصر من الانقلاب العسكري على المسار الديمقراطي، وهذه النماذج هي التي يدعمها الغرب بشكل أو بآخر، لأنهم في النهاية يطبقون الأجندة التي تصبّ في مصلحة الغرب، حتى لو كانت ضد مصلحة شعوبهم.
أما الذي يريد أن يرفع من شأن وطنه وأمته، ويمتلك غذاءه، وسلاحه، وحريته، ويسعى لاستقلال وطني في كل شيء؛ يهددونه من حين لآخر، ويصفونه بأوصاف مسيئة، ويحاربونه اقتصاديًا، ويقلّبون الرأي العام ضده من خلال معارضة تساهم بشكل مباشر في تحقيق الأجندة الغربية، أو لا تفهم اللعبة على أقل تقدير.
انقلاب الطاولة السداسية على أصحابها
من المتوقع أن تحدث انشقاقات من الأحزاب المشاركة في الطاولة السداسية، سواء فيما بينها، أو داخل كل حزب على حدة، لأن اللغة الشعبوية التي استخدموها في الجولة الأولى لم تكن كافية لإقناع الناخبين، للحصول على الفوز الذي وعدوا به سواء في الرئاسية أو البرلمانية، ولم يجتمعوا إلا على شيء واحد، وهو إزاحة أردوغان، وحزبه عن سدة الحكم.
في المقابل حقق الرئيس أردوغان فوزًا واضحًا برغم كل العقبات التي وُضعت في طريقه، وتقليب الرأي العام ضده، في الداخل والخارج، الأمر الآخر اختلاف الأيدولوجيات المكونة لهذه الطاولة، وعدم اقتناع الكثير من أنصار الأحزاب المشارِكة، وخصوصًا التي كانت قريبة من العدالة والتنمية بشكل خاص، بما حققته الطاولة من نتائج، ومن ثمّ أتوقع حدوث استقالات في كل هذه الأحزاب، وانضمامها إلى حزب العدالة والتنمية.
أما عن التهديد الذي وجهه الرئيس أردوغان، ووزير داخليته سليمان صويلو، لكمال كليتشيدار أوغلو أثناء الدعاية ما قبل الانتخابات، بأن هناك تسريب للقاء الأخير بمنظمة فتح الله جولن، وبعض السفراء الغربيين أثناء زيارته للولايات المتحدة الأمريكية، فهذا بلا شك سيحدث خللًا كبير في تماسك الطاولة من جانب، وعزوف قطاعات كبيرة من الشعب التركي عن دعم أوغلو في جولة الإعادة، وستؤثر بشكل كبير على قرارات الناخبين الأتراك.
ينضاف إلى ذلك ما صرح به، أخيرًا، محرم إينجه، المنسحب بشكل مفاجئ قبل 3 أيام من موعد الانتخابات: إن الشعب التركي رفض التصويت للمعارضة بسبب تحالفها غير المعلن مع ما أسماه “المنظمات الإرهابية”، وعلى رأسها حزب العمال الكردستاني، وجماعة فتح الله غولن، واتهم المعارضة بأنها رسمت صورة لنفسها كأنها تسعى لتقويض نجاحات البلاد في الصناعات الدفاعية، مضيفًا أن انسحابه من السباق الرئاسي جاء كي لا يتحمل أسباب التراجع والخسارة الحاصلة.
حظوظ أردوغان في الفوز بجولة الإعادة
لا شك أن الجولة الثانية ستفيد أردوغان في الحصول على نسبة مريحة في جولة الإعادة، مع العلم أنها المرة الأولى التي يخوض فيها الرئيس الجولة الثانية، بالمقارنة لما سبق، حيث كان يتخطى العتبة الانتخابية من الجولة الأولى.
ويعتمد أردوغان بشكل كبير على تاريخه السياسي الذي يعرفه القاصي والداني، وإنجازاته الكبيرة التي حققها للشعب التركي على مدار الـ 20 عامًا الماضية، وسياساته المتزنة داخليًا وخارجيًا، برغم الصعوبات والعراقيل التي توضع في طريقه، ويتخطّاها بكارزميته، وتوازناته السياسية.
ولكن لا تزال مشكلة البطالة، وانخفاض قيمة الليرة بشكل كبير حتى الآن، وارتفاع معدلات التضخم بنسبة تزيد عن 25٪، مع تضاعف أسعار بعض السلع في الأشهر الأخيرة، كذلك وجود شريحة كبيرة من الشباب ترغب في التغيير، وخصوصًا أنها لم تشهد الأوضاع الصعبة التي عاشتها تركيا قبل مجيء العدالة والتنمية من جانب، وعدم اهتمام الحزب بالشكل الكافي بهذه الشريحة من جانب آخر.
أقول: كل هذه العوامل إن لم يضع لها الرئيس وحزبه المعالجات الناجعة، والتصورات الواضحة من خلال حملة الترويج لإعادة انتخاب الرئيس أردوغان، فأتصور أن ذلك سيكون عقبة كؤود في تحقيق كل ما يصبو إليه الرئيس أردوغان.
كما أنه من الأهمية بمكان إيجاد صيغة مناسبة لجذب الملايين التي لم تصوت في الجولة الأولى، وحوالي مليون صوت كانت باطلة، ولعل ما قام به هؤلاء وتلك؛ إما اعتراضًا على الأوضاع المعيشية، أو عدم الاقتناع بالشخصيات المرشحة.
وفي النهاية أستطيع القول بأن الممارسة الديمقراطية التي شاهدها وتابعها العالم في تركيا، كانت ولا تزال نموذجًا واضحًا للديمقراطيات المستقرة، وخصوصًا أن اللجنة العليا للانتخابات لم ترصد أي تجاوزات في الجولة الأولى.
وعليه أدعو الشعب التركي بكل فئاته وأطيافه، شبابه ورجاله ونسائه؛ التوجه لصناديق الاقتراع للإدلاء بأصواتهم، واختيار من يرونه مناسبًا في هذه المرحلة، لأن هذه الانتخابات، وخصوصًا الرئاسية، ستحدد مستقبل تركيا السياسي في الفترة القادمة، وترسم تموضعها في المنطقة.