د. جمال نصار – عربي21
كُنا بالأمس القريب نستقبل شهر القرآن، شهر الصيام والذكر والطاعات، شهر الجود والكرم والقُربات، وها نحن الآن أوشكنا على توديعه، وفراقه، فالكَيّس الفطن، من استدرك ما فاته، ولحق بركب الصالحين، وعوّض التقصير، وجَبَر نفسه بعمل الخيرات، وترْك المنكرات، امتثالًا لقول الله تعالى: (وفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ المُتَنَافِسُونَ) (المطففين: 26)
وربما يسأل سائل لماذا الإسراع بعمل الخيرات، ولا يزال العمر باق، وما لا نفعله اليوم نفعله غدًا؟ أقول فلتعلم أيها المسكين أن العمر قصير، فلا تجعل الأمل طويل، ولا تُسوِّف عمل اليوم إلى الغد، وخصوصًا الطاعات والقربات، لأن المسألة باختصار كما قال النبي الكريم، صلى الله عليه وسلم: (أعمارُ أمَّتي ما بينَ السِّتِّينَ والسَّبعينَ وأقلُّهم من يجوزُ ذلِكَ).
والإنسان الفطن، هو الذي يعمل للآخرة بمجرد بلوغه سن التكليف، ويواظب على ذلك في كل أفعاله، لأن العمر محدود، والأنفاس معدودة، والحياة الآخرة هي خير وأبقى، كما قال سبحانه: (والآخِرَةُ خَيْرٌ وأَبْقَى) (الأعلى: 17).
ولذلك كان سلف الأمة أكثر فطنة مِنّا، واستغلالًا لأوقات الخير، وحرصًا على أهمية الأوقات وخيريّتها، وكان الهدف الأسمى عندهم هو العمل للآخرة، والسعي لإرضاء الله، ولذلك قال الصحابي الجليل أنس بن مالك، رضي الله عنه: “إنما الخيرُ خيرُ الآخرةِ”.
ومن يقرأ كتاب “قيمة الزمن عند العلماء”، للشيخ عبد الفتاح أبو غدة، رحمه الله، الذي أورد فيه عشرات المواقف الفريدة من نوعها في استغلال الوقت في أفضل صورة؛ يعلم أن معظمنا يُضيّع الأوقات في غير فائدة، ويُهدر الساعات والأيام والليالي فيما لا يفيد.
ولنعلم أن كل شيء من حولنا يذكِّرنا بقيمة الوقت والزمن الذي نعيشه، فطلوع الشمس وغروبها، والقمر الذي قدّره الله تعالى منازل، كل يوم نراه أصغر أو أكبر من اليوم الذي قبله، وحركة الكون والكواكب، كل هذه الأشياء تُذكِّرنا بقيمة الزمن الذي هو رأس مالنا.
وأركان الإسلام كلها مرتبطة بالزمن؛ فالصلاة التي فرضها الله في كل يوم وليلة خمس مرات، كُلما مرّ وقت من أوقاتها ذكّرنا بأنه قد مرّ علينا زمن، ودخل زمن جديد، هذا في اليوم. أما في الأسبوع، فصلاة الجمعة تذكّرنا بقيمة الزمن أيضًا، وكذلك الصوم، فإذا دخل رمضان نتذكّر أنه قد مضى عام، وأتى آخر جديد، والزكاة التي نخرجها عندما يحول الحول (أي العام)، والحج الذي فرضه الله تعالى في العمر مرة واحدة، يُذكرنا بقيمة الزمن. وهكذا كل حياة الإنسان مرتبطة بالوقت والزمن.
قال ابن مسعود، رضي الله عنه: “ما ندمتُ على شيءٍ ندمي على يومٍ غربت فيه شمسُهُ، نقص فيه أجلي، ولم يزدَدْ فيه عملي”، ويقول الحسن البصري، رحمه الله: “يا ابن آدم، إنَّما أنت أيَّام، كلَّما ذهب يومٌ ذهب بعضُك”، وقال أيضًا: “لقد أدركت أقوامًا كانوا على أوقاتهم أشدَّ حرصًا منكم على أموالكم”.
وقال ابن القيم، رحمه الله: “إضاعة الوقت أشد من الموت؛ لأنَّ إضاعة الوقت تقطعك عن الله والدار الآخرة، والموت يقطعك عن الدنيا وأهلها”، وقال الوزير الصالح يحيى بن زهير:
وَالوَقْتُ أَنْفَسُ مَا عُنِيتَ بِحِفْظِهِ وَأَرَاهُ أَسْهَلَ مَا عَلَيْكَ يَضِيعُ
والمتأمل في واقعنا اليوم يجد أن الكثير منّا يُهدر الأوقات في غير نفع أو فائدة، سواء أكانت عامة أم خاصة، ولذا وجب على كل فرد أن يهتم بإدارة وقته، وإدارة الوقت تعني الاعتماد على الوسائل المعينة على الاستفادة القصوى من الوقت في تحقيق الأهداف، وخلق التوازن في حياة الإنسان؛ ما بين الواجبات والرغبات والأهداف، ويُحدد مقدار الاستفادة من الوقت، وهذا هو الفارق ما بين المسلم الحق الجاد القادر على التأثير في مجتمعه وحركة تطوره، وبين المستهتر الذي لا يُقدّر الأمور حق قدرها ويمثل عبئًا على مجتمعه.
ومن يتتبع سير الصالحين، أو العلماء والمفكرين، أو أصحاب المشاريع الكبرى، سواء للدنيا أو الآخرة، أو كليهما معًا، سيجد بما لا يدع مجالًا للشك، أن عُنصر الوقت له قيمة قصوى عندهم، ويستغلونه أفضل استغلال.
فالله الله في إضاعة الأوقات في غير فائدة، والحذر كل الحذر ممن يروجون لقتل أعمارهم فيما لا يفيد، ويسهرون الأيام والليالي في اللهو والمجون.
ولعل رمضان، الذي كاد أن يرحل عنّا، يعيننا على استغلال الأوقات الثمينة، ويدفعنا إلى أن نقدِّرها قدْرها، ونكون، إن شاء الله، ممن رحمهم الله، وغفر لهم، وأعتق رقابهم من النار، ونحظى بلية القدر التي هي خير من ألف شهر.