ورد في المعجم الوسيط تعريف الطاغيَةُ بأنه: شديد الظُّلم، متكبِّر عاتٍ، جبَّار، عنيد، يأكل حقوق الناس ويقهرهم.
وقد وردت كلمة “طغى” ومشتقاتها في تسعة وثلاثين موضعا من القرآن الكريم، وبصيغ وتصريفات مختلفة، يجمعها شيء واحد وهو: “مجاوزة الحد”، من ذلك قوله تعالى: (وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ) (البقرة: 15)، وقوله عزوجل: (اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى) (طه: 24)، وقوله سبحانه: (أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ) (الرحمن: 8).
وقد أشار القرآن الكريم إلى أسباب التجبّر والطغيان قديمًا وحديثًا منها:
أولًا: الكبر والعلوّ: وهو الجامع الرئيس بين الطغاة، وأبرز الشخصيات التي تمثلّ هذا السبب على الإطلاق شخصية الطاغية فرعون؛ الذي اجتمعت فيه كل أسباب الطغيان، ومارس كل صنوف الطغيان بحق قومه، قال الله سبحانه عن فرعون: (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ) (القصص: 4) وقال تعالى: (وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ) (القصص: 39).
ثانيًا: العجب والغرور: وهذه آفة الطغاة في عتوهم وتجبرّهم وعدم قبولهم الحق والانصياع له، ولذلك قال الله حاكيًا حال قوم عاد لما طغوا وتكبروا على ربهم، ثم على نبيهم بقوله: (فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً) (فصلت: 15). ومن صور مباهاة الطاغية فرعون ومفاخراته أن جعل يستحقر الآخرين ويعيبهم عجبًا وغرورًا فقال عن موسى: (أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ) (الزخرف: 52).
ثالثًا: الحقد والحسد: وهو الداء الذي يحرق قلب صاحبه إذا ما رأى لله على غيره منّة أو أسبغ عليه نعمة؛ فيدفعه ذلك إلى ممارسة الطغيان، وهذا كان سبب طغيان اليهود ورفضهم قبول رسالة النبي، صلى الله عليه وسلم، مع أنه مكتوب عندهم في التوراة، ولا شك أن ذلك ناتج عن الحقد والحسد لرسول الله قال سبحانه: (وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً) (المائدة: 64).
رابعًا: المُلك والسلطة: وهي من أعظم الأسباب الباعثة على الطغيان، وبالأخص منهم طغاة الحكم والسياسة، ولذلك ذكر الله في القرآن الملك النمرود الذي طغى وتجبّر حتى وصل به الأمر أن ادعى الربوبية، وكان الباعث له على ذلك المُلك والسلطة قال عزوجل (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ)، وهذا فرعون يبرر فجوره وعلوه في الأرض كما حكى القرآن عنه يقول: (أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ) (الزخرف:51).
خامسًا: غفلة الناس عن حقوقهم وقبولهم الظلم: فالشعوب إذا استمرأت الظلم ورضيت بالهوان وغلب عليها الخوف؛ أعطت الطاغية فرصة وشجعته على الاستمرار والزيادة في البغي، ولنلاحظ كيف بلغ الخوف بقوم موسى أعطاهم الله الملك ونجاهم من فرعون وكتب الله لهم الأرض المقدسة أنها لهم وطلب منهم مواجهة الجبارين فرفضوا فكيف سينتصرون إذن (يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ، قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ) (المائدة 21-22) ولا شك أن غفلتهم وسكوتهم عن أعمال فرعون وقبولهم استبداده هو ما جرّأه عليهم من قبل ولكنهم لم يتعظوا (فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ، إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ) (الزخرف:54).
ومن صور الطغيان:
أولاً: الظلم والتجبّر والاستبداد: فيُعدّ ظلم الناس، وتهميشهم، وهضم حقوقهم، وسلب مقدراتهم وإراداتهم؛ من أبرز صور الطغيان قديمًا وحديثًا، وكم عانت الشعوب المستضعفة المقهورة من ظلم الطغاة وجورهم وتجبرّهم !!. قال تعالى: (وَفِرْعَوْنَ ذِي الأَوْتَاد الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلاَد فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَاد فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَاب إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَاد) (الفجر: 9-14)
ثانيًا: القتل والتعذيب والتنكيل: وهذا من أشنع صور الطغيان وأقبحه وقد حكى الله عن فرعون قوله (قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ) (الأعرف: 127)، والمشكلة أن الطغاة في كل عصر يمارسون صور الظلم نفسها وهذا يفسر تشابه قلوب الظالمين الأوائل والمعاصرين، ففي سبيل الحكم يمكن أن يقتل شعبه ويجوعهم ويسلط عليهم المرتزقة من شرار الخلق.
ثالثًا: فرض الرأي ومصادرة الحقوق والحريات: فالطغاة، على مرّ التاريخ، يفرضون آرائهم وأهوائهم على أقوامهم، ويجعلونها عليهم قوانين إلزامية، ويقسرونهم على قبولها والانقياد لها قسرًا، ويصادرون حرِّياتهم وحقوقهم المشْروعة في الاختيار والقبول والرَّفض؛ فعليهم ألا يعتقدوا ويعتنقوا إلا ما يعتقد ويعتنق, ومن سوّلت له نفسه أن يخالف أو يرفض يستخدمون معه أبشع أساليب القمع والتنكيل.. والعجيب أنهم يصورون أنفسهم كأنهم أصحاب الحق وأن غيرهم مُفسد في الأرض، ومنطق الطاغية واحد كما قال فرعون لقومه (مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ) (غافر: 29).
وإذا تأملنا الواقع الذي نعيشه نجد أن طغاة العصر ومستبديهم لم يخرجوا عن وصف القرآن وممارسات فرعون؛ من ظلم وتجبّر وتكبّر وعلو، وقتل وسجن للمخالفين، ومصادرة للحريات والحقوق، والدعوى بأنهم على الحق وغيرهم على الباطل.
ومن أبرز النماذج على ذلك “سيسي” مصر، حيث بدأ بالعديد من الوعود والقسم، وخالف كل وعوده وحنث بقسمه مع الشعب، بداية من عدم ترشحه للرئاسة، إلى بكرة تشوفوا مصر، إلى آخر الوعود والأيمان التي أقسم بها، وإهداره لمقدرات الدولة المصرية وأراضيها، وهيمنته على كل مؤسسات الدولة بالقبضة الأمنية، وتسييرها في فلكه هو ومن حوله، وتدميره للاقتصاد المصري، ومصادرته للحريات العامة والشخصية، وتقسيمه للمجتمع نصفين، وتهيئته للحرب الأهلية بين أبناء الشعب الواحد، ورفعه للدعم عن الفقراء وغلاء الأسعار، وتأميمه لكل وسائل الإعلام، وسجنه لكل معارضيه، وقتلهم بدم بارد، وإصدار مئات الأحكام بإعدامهم، وإحالتهم للقضاء العسكري دون أي جريرة، بحجة محاربة الإرهاب، الذي انتشر وزاد في عهده! وتدميره لسيناء بدلا من تعميرها، وتهجيره لأهلها، وتهميشه للدين ومحاربته، بحجة تجديد الخطاب الديني، وآخر الأسافي أنه يريد إصدار قانون لتحديد النسل، وطلبه جنيها من كل موظفي الدولة، بحجة مواجهة الفقر، الذي صنعه بنهب أموال الشعب!
ولم يكتف “سيسي” مصر بكل ذلك، بل اتجه إلى من أيده وناصره في انقلابه، مثل: القضاة، فأصدر قانون السلطة القضائية الذي يعارضه القضاة، وحارب الأزهر، وشن على شيخه حملة إعلامية مشبوهة، وأبعد العديد من الإعلاميين الذين دافعوا عنه وأيدوه، مثل توفيق عكاشة، ومحمود سعد، وإبراهيم عيسى، ويسري فودة، وغيرهم، كل هؤلاء نالهم من ناره وجبروته، وتلك سنة الله في الأرض، “من أعان ظالمًا سلّطه الله عليه”.
فأنت أمام شخص يستخدم القوة والسلاح والقهر لكل معارضه، والضحك والوعود على الشعب، بل استجدائه له، دون أدنى رؤية، أو مسار واضح لمستقبل دولة يستطيع أن يعيش فيها المواطن في أمان وينعم بالحرية والعيش الكريم!