هذا العنوان مقتبس من الآية الكريمة من سورة يوسف (قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ ۚ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ ۚ قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ) الآية: 51
ما أشبه الليلة بالبارحة؛ فهناك كانت الخديعة من امرأة العزيز لكي توقع بسيدنا يوسف في الفاحشة، وتوجه له التهم الباطلة، التي هو منها براء، يقول القرطبي: “قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ لَمَّا رَأَتْ إِقْرَارَهُنَّ بِبَرَاءَةِ يُوسُفَ، وَخَافَتْ أَنْ يَشْهَدْنَ عَلَيْهَا إِنْ أَنْكَرَتْ أَقَرَّتْ هِيَ أَيْضًا، وَكَانَ ذَلِكَ لُطْفًا مِنَ اللَّهِ بِيُوسُفَ”.
وفي مقتل الصحفي والإعلامي جمال خاشقجي – يرحمه الله – أرادت السعودية خديعة الرأي العام العالمي بعد ارتكابها لأبشع جريمة في هذا العصر، بأنها نتيجة شِجار واشتباك بالأيدي مع عدد من الأشخاص داخل القنصلية السعودية في إسطنبول أودى إلى القتل، بعد 17 يومًا من الإنكار الشديد، دون الكشف عن مصير جثته، ولكن الله فضحهم وكشف تدبيرهم في كل بقاع الأرض!
ألا يعلم هؤلاء أن الله يراهم ويسمع خبثهم وتدبيرهم؟
أيظنون أنهم سيفلتون من عقاب الله بإيجاد التبريرات في الدنيا، فماذا سيكون موقفهم يوم القيامة؟!
هل يظنون أن أموالهم ستمنعهم من غضب الشعوب العربية والإسلامية ونقمتها على ممارساتهم التي أضرّت أكثر مما نفعت؟!
انتصار تركيا دبلوماسيًا وسياسيًا
توقع العديد من المراقبين والمتابعين لمقتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي أن يخرج الرئيس أروغان في خطابه ظهر الثلاثاء (23 من أكتوبر 2018) بخطاب عاطفي يُوضّح فيه كل الملابسات حول هذا الفعل الشنيع، الذي دبّره محمد بن سلمان، حسب العديد من التقارير العربية والغربية، ولكنه تعامل مع الموضوع بسياسة ودبلوماسية بارعة، دون الانجرار إلى الجانب العاطفي فقط؛ ومن أهم النقاط التي أراد إبرازها للرأي العام العالمي:
• تحويل التّسريبات والمعلومات الصّحفيّة إلى رواية رسميّة؛ فنحن الآن أمام الرّواية التّركيّة الرسمية لمشهد الجريمة، وليس معلومات وتصريحات صحفيّة، أو تلفزيونية.
• طرح أردوغان مجموعة من الأسئلة التي يمكن تسميتها بالأسئلة الكبرى في جريمة اغتيال خاشقجي، ومن أبرزها أين جثة المقتول، ومن هو المتعاون المحلي؟ وأكّد أنّ الملف لن يتمّ إغلاقه قبل الإجابة عن هذه الأسئلة جميعًا.
• رفض أردوغان تحميل المسؤوليّة في الجريمة لمجموعة من ضباط المخابرات وصغار المسؤولين، مع التّأكيد على ضرورة كشف المتورطين “من أسفل السلّم إلى أعلاه”، وفي هذا إشارة للمتورطين في أعلى السلطة بالمملكة العربية السعودية.
• طالب أردوغان بتسليم المتّهمين الـ 18 للتحقيق معهم في تركيا، وهي رسالة تشكيك واضحة بنزاهة التّحقيق في السّعودية، وعدم الثّقة بابن سلمان الذي يرى الكثيرون أنه وراء هذه الجريمة.
• طالب أردوغان بتحقيق محايد في القضيّة، وهذا أيضًا يؤكّد التشكيك بالرّواية السّعوديّة ونزاهة التّحقيق من قبلها في القضيّة، ويعني ذلك ضرورة تدويل القضية.
• إشارته إلى تورط بعض الدول الإقليمية في هذه الجريمة، وهذا ما أكدته التسريبات السابقة للخطاب، بأن هناك طيارتان حملتا المتهمين إلى مصر ودبي، وفي ذلك إشارة إلى تورط نظام السيسي، ومحمد بن زايد في هذه الجريمة.
إذن هذه الجريمة التي كان يُراد منها توريط تركيا إقليميًا ودوليًا بقتل خاشقجي على أراضيها، دون غيرها، تحولت لصالح تركيا نتيجة للإدارة الدبلوماسية الواعية في التعامل مع الحدث، ومن ثمّ انقلب السحر على الساحر، وتحولت السعودية ومن يدعمها في هذا الملف من متهِمة إلى متهَمة، وسقطت كل الدعاوى الإصلاحية التي نادى بها محمد بن سلمان، وخدع بها شعبه، واعتقل العلماء والمصلحين لتمرير مشروعه الذي يخدم أعداء الأمة، وأوهم العالم أنه يقدم نموذجًا تجديديًا في المملكة.
وعلى ذلك خرجت تركيا منتصرة برغم التدابير والمؤامرات التي تحاك ضدها إقليميًا ودوليًا، من السعودية والإمارات، وبدعم من الولايات المتحدة الأميركية.
هل يمكن أن تحدث تحولات في المنطقة العربية بعد مقتل خاشقجي؟
أتصور أنه بالرغم من بشاعة هذه الجريمة التي وقعت على أرض تركيا إلا أنها مؤشر لحدوث تغيرات وتحولات في منطقة الشرق الأوسط، لم يُعدّ لها مُسبقًا، فالتصورات السابقة والترتيبات الإقليمية والدولية، كانت لتمرير صفقة القرن لصالح (إسرائيل)، وحصار تركيا، كما يحدث مع قطر، واستمرار محاربة الإسلاميين في المنطقة والقضاء عليهم.
ولكن شاء الله أن يفضح هؤلاء المتآمرين من جنس تخطيطهم وتدبيرهم، فانقلب الأمر عليهم، وتغيرت المعادلة، وتحولت النتيجة لصالح الحقيقة.
وهناك العديد من الأسئلة الجوهرية بشأن المملكة العربية السعودية التي خططت للجريمة، لإعادة التفكير في المسار التي تسير فيه، وتُخطط له لتمكين محمد بن سلمان من الوصول إلى أعلى سلطة في المملكة منها:
هل يمكن للسعودية أن تكسر طوق الابتزاز الأمريكي، وتبدأ بتمتين علاقتها مع تركيا لتصبح السعودية وتركيا معًا رائدتان في المنطقة، وصاحبتا القرار المطلق فيها؟!
وهل ستستفيد السعودية وتركيا من الخبرات السياسية لبعضهما وتجاربهما القديمة، فيحققا بذلك ما عجزتا عن تحقيقه منفردتين؟!
وهل ستؤدي قضية “خاشقجي” لإنهاء الأزمة الخليجية مع قطر لتتوقف حملات التلاسن الإعلامي المتبادل بين الجزيرة ووسائل الإعلام السعودية والإماراتية والمصرية؟!
وهل سيبدأ الخليج في الخروج من هذا الصراع الداخلي الذي لا ناقة له فيه ولا جمل، والذي لا يستفيد منه إلا أعداء الأمة الذين يستثمرون دومًا لابتزاز دول المنطقة وابتزاز الطرفين؟!
وهل ستوقف كل دولة المحرضين والمتحرشين لديها ممن لا يحملون جنسيتها ليكونوا عبرة لمن بعدهم فلا يتدخلوا في شؤون الدول التي يعيشون على أرضها، ولا يُقحمون أنفسهم في تأجيج الفتن بين الدول؟!
وهل سيتم الإفراج عن المفكرين والعقلاء والعلماء والمصلحين لتعود دول الخليج إلى عصرها الذهبي، وتستعيد سمعتها الزاهرة التي كانت عليها؟!
أظن أن المسألة شديدة التعقيد، وتحتاج إلى رجال مخلصين يعرفون قيمة الأوطان، وأهمية قدرات شعوبهم، ويتميزون بالاستقلال الوطني، وعدم التبعية المفرطة للغرب.