نحن في حاجة ماسة إلى الوقوف والتأمل فيما حولنا، بل الأهم أن ننظر في أنفسنا، ونتأمل في خلق الله لنا، تطبيقًا لأمر الله: )وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ( (الذاريات: 21)، وخصوصًا أن معظمنا منشغل بالشأن العام، الذي يزداد تعقيدًا كل يوم، بل الأحداث تتوالى بسرعة فائقة، وتحتاج منّا جميعًا أن نقف مع أنفسنا ترتيبًا وتخطيطًا.
قال ابن جرير الطبري: “وفي أنفسكم أيضًا أيها الناس آيات وعِبر تدلُّكم على وحدانية صانعكم، وأنه لا إله لكم سواه، إذ كان لا شيء يقدر على أن يخلق مثل خلقه إياكم (أَفَلا تُبْصِرُونَ) أفلا تنظرون في ذلك فتتفكروا فيه، فتعلموا حقيقة وحدانية خالقكم”.
والتفكر من أعظم العبادات؛ كما قال عمر بن عبد العزيز: “التفكر في نعم الله عز وجل من أعظم العبادة”، وقال الحسن البصري: “تفكر ساعة خير من قيام ليلة”
فإذا تفكر الإنسان في نفسه استنارت له آيات الربوبية، وسطعت له أنوار اليقين، كما قال ابن القيم الجوزية.
وسبحان الذي قال: )سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ( (فصلت: 53)، ففي هذه الآية دعوة للإنسان أن يستعمل حواسه في النظر إلى قدرة الخالق سبحانه، وما أبدع في هذا الوجود من آيات تنطق بالقدرة العلية، والحكمة المبدعة، فيهتدي بذلك إلى الإيمان بالله، وتنزيهه سبحانه عن الشريك والنظير، فإن هو عطل حواسه تلك عن النظر في ملكوت الله ضل وغوى، ولبس ثوب الشقاء في دنياه وآخرته.
إن آيات الأنفس كآيات الآفاق جاءت كلها لتنشيء في القلب المتفكر فيها إيمانًا راسخًا يدعو صاحبه إلى العمل والالتزام
ومعرفة الإنساني في المنظور الإسلامي شيء من جنس وجوده، فإذا كان الإنسان غير خالق لنفسه من حيث الوجود فهو كذلك غير مستقل بنفسه من حيث المعرفة، فمعرفته تابعة لوجوده، ووجوده تابع لله.
وإذا تأمل الإنسان في جسده فقط لوجد فضل الله عليه عظيمًا، ومن الأمثلة على ذلك بعض حواس الإنسان التي كثيرًا ما يغفل عنها:
فالجلد مثلًا؛ الذي يغطي الجسم وسيلة حفظ لسوائل الجسم فلا يصيبه الجفاف، كذلك عليه طبقة قرنية من الخلايا الميّتة التي تعيق دخول الميكروبات المرضية إلى داخل الأنسجة، كذلك به الخلايا والحلمات الحسية التي تشعر الشخص بما حوله من تغيرات بيئية (حرارة، برودة، أشياء ومؤثرات ضارة) فيحفظ نفسه ويحميها من المخاطر بإذن الله، كذلك الجلد به الغدد العرقية التي تفرز العرق، وهو مادة شديدة الملوحة كافية لقتل الميكروبات أو على الأقل وقف نشاطها والحد منه، كما أن هذا العرق يحمي الجسم من الارتفاع في درجة الحرارة فهو يلطف من حرارة الجسم.
والعين؛ إذا نظرنا إليها وما فيها من حفظ لوجدنا أن الله زودها الرموش لحمايتها من الأتربة والرياح ، كذلك وجود الجفون التي تغلق العين ليغض الإنسان بصره فلا يتولد لديه الشهوة وعدم الرضا بما قسمه الله من زوجة إذا ما أطلق بصره يجول هنا وهناك في المحرمات، كما أن هذه الجفون تغلق و تفتح بسرعة من آن لآخر حتي تتسنى لمادة (الأوبسين) أن تتحد مع مادة (الريتينين) لتكون مادة (الردوبسين) التي تتحلل عند دخول الضوء للعين إلى المادتين اللتين كوناها فتتمكن العين من الرؤية، كذلك يوجد بالعين فيما يعرف بالتجويف الحجاجي داخل الجمجمة ليحميها من الإصابات الخارجية والصدمات، كذلك تفرز العين إنزيم خاص، مادة كيميائية هو (الليزوزوم) عند دخول البكتريا أو الميكروبات إليها فتحللها بإذن الله وتفتك بها.
والأنف؛ الذي ينتج المادة المخاطية من خلال النسيج المخاطي الذي يتميز بكميائية قلوية تعمل على: قتل الميكروبات، وتجميع المواد الضارة والأتربة التي تدخل للجسم، كما يعمل على ترطيب وتبريد الهواء الساخن قبل دخوله للرئتين، وكذلك به الأوعية الدموية التي تعمل على تدفئة الهواء البارد قبل دخوله الرئتين حتى لا يصاب الإنسان بالأذى، وكذلك توجد شعيرات عادية لحجز الغبار والأتربة.
والفم: به اللعاب الذي له من الفوائد العظيمة أقلها أنه قلوي لقتل الميكروبات الداخلة مع الطعام، كذلك يعمل على حفظ الأسنان من التآكل لو تعرضت للهواء، كذلك به مادة مخاطية تسهل مرور الطعام وانزلاقه للمعدة خلال المريء حفاظًا على الإنسان من الاختناق إذا توقف الطعام بالمريء فينشأ عنه عدم مرور الهواء بالقصبة الهوائية.
هذه هي قدرة الله عز وجل، وهذا فيض من غيض، كل ذلك يدعونا أن نشكر الله تبارك وتعالى آناء اللين وأطراف النهار على نعمه التي لا تُعدّ ولا تُحصى.
ومن ثمّ على القائمين بتربية النشء تهذيبهم وتوجيههم إلى التأمل الروحي المهذب والتفكير والنظر في النفس وفي الظواهر من حولنا، حتى تجتمع لدى الإنسان الفكر والذكر، وتفتح أمامه أبواب الروحانية المهذبة.
إذ المعرفة الإنسانية منحة من الله توازي نعمة الخلق والإيجاد والرتبة، وتتحد معها في المصدر، وتجري معها على قدَر، وتسير معها في جادة واحدة وتنشد معها غاية واحدة.
وصدق الشاعر الذي قال:
لــلـــه فـي الآفـــــاق آيــــات لعل أقــلهــا هـو مـا إليه هـداك
ولعل ما في النفس من آياته عجب عـجــاب لو تـرى عيـنـــاك
والكون مشحون بأسرار إذا حـاولت تفســـيرًا لـهـــا أعياك