حلّت منذ أيام خمسة أعوام على الانقلاب العسكري في مصر، الذي أطاح بأول رئيس مدني مُنتخب بإرادة شعبية، في الثالث من يوليو 2013، وبعد ثورة سلمية شهد لها العالم بالتميز والتقدم، والنهج الحضاري. ولكن المنطق العسكري، والعقلية المستبدة في مصر لا ترغب في أن يعيش الشعب المصري في رغد من العيش، أو في جو من الديمقراطية الحقيقية، أو أن يختار حاكمه بإرادته الحرة، أو أن يكون مثل باقي الشعوب الحرة التي لديها استقلال وطني بعيدًا عن الوصايات الإقليمية والدولية!
ومن ثمَّ عادت الأمور إلى سالف عهدها، ولكن بشكل أسوأ، وبصورة بشعة، وطريقة شديدة الخطورة على مستقبل مصر في جميع المجالات، ولا يعبأ النظام الذي استولى على السلطة بما يريده الشعب، أو يسعي لتحقيق مصالحه وتخفيف الأعباء عن كاهله، وكل ما يعنيه هو عسكرة كل المؤسسات المدنية، والهيمنة على مقدرات الدولة المصرية، بحجة الحفاظ على الأمن القومي، الذي لم نعرف حتى الآن ما هو مفهوم الأمن القومي الحقيقي وحدوده، الذي يريده هذا النظام! هل هو بالفعل الحفاظ على الدولة من المخاطر الداخلية والخارجية، أم أن المسألة متعلقة بما يعود بالمنفعة والمصلحة على فئة بعينها؟!
أقول: هذا النظام العسكري أذاق مصر الويلات منذ أن بدأ بالانقلاب الأول في الثالث والعشرين من يوليو عام 1952، بسيطرة الضباط الأحرار على الوضع السياسي في مصر، واستمرت المأساة إلى وقتنا الراهن، مما أدى إلى تخلف مصر في ميادين عديدة، وتقزيم دورها على المستوى الإقليمي والدولي، فبعد أن كانت مصر يُحسب لها ألف حساب، وتقدّر مواقفها إقليميًا ودوليًا، أصبحت الآن تابعة إقليميًا لدولة صغيرة الحجم، حديثة النشأة، تُسمى الإمارات، ودوليًا أصبحت مصر تابعة بل ضالعة في تنفيذ المخطط الصهيوأميركي في المنطقة، بما يعرف الآن بصفقة القرن!
وأريد من القارئ الكريم ألّا يصدق ما أقوله، وليذهب بنفسه للتعرّف على الأوضاع الراهنة في مصر بالأرقام والإحصاءات الرسمية، وغير الرسمية؛ ليرى كمّ التدهور الذي وصلت إليه مصر، بعد الانقلاب العسكري الأخير في العام 2013، بعيدًا على المزايدات، أو تصفية الحسابات، واسمحوا لي أن أذكر لكم بعض هذا المعالم في سطور التالية.
أولا: على المستوى السياسي:
نظام السيسي أوصد الحياة السياسية تمامًا؛ إذ كان الاعتقال والتنكيل مصير من حاول المنافسة بالانتخابات الرئاسية التي فاز بها السيسي، بشكل دراماتيكي، لفترة رئاسية ثانية في مارس الماضي، فضلاً عن إقرار قوانين تُجرِّم التظاهر تصل في كثير من الأحيان للمحاكمات العسكرية. ناهيكم عن غياب الحياة الحزبية تمامًا، فلا يستطيع أي حزب، أو تكتل ما أن يعارض أو يظهر الخلاف معه على الرأي العام، وخير دليل على ذلك إفطار القوى المدنية في رمضان الماضي، الذي تم فضِّه بالبلطجية!
والبرلمان الموالي بغالبيته الساحقة للرئاسة، والذي من المفترض أن يدافع عن الفقراء، يواصل مخالفاته المستمرة للدستور، ويبارك بيع الأرض، ويقر موجة الغلاء التي تفرضها اشتراطات صندوق النقد الدولي، من دون أي اعتبار للبسطاء الذين انتخبوهم، وتأييد استمرار حالة الطوارئ، وإصدار القوانين التي تكبِّل العمل النقابي.
ثانيًا: على المستوى الاقتصادي:
يؤكد العديد من الخبراء الاقتصاديين دومًا أن الاقتصاد المصري لا يزال حبيس الأوضاع السياسية، وأنه يشهد انهيارًا كبيرًا؛ إذ تمشي مصر على خطى شروط صندوق النقد الدولي، بما يضر بمصلحة جموع الشعب، وخصوصًا طبقة الفقراء، وذوي الدخل المنخفض. وقد اتخذ السيسي عدة قرارات تقشفية، شملت رفع الدعم عن المحروقات والخدمات ورفع أسعار وسائل النقل وتذاكر مترو الأنفاق، فضلاً عن قرار تحرير سعر الصرف الذي يوصف بأنه القشة التي قصمت ظهر الاقتصاد المصري. بالإضافة إلى هذا، تعاني مصر أزمة مائية على إثر فشل مفاوضات سد النهضة مع إثيوبيا، وفي المقابل يرفع السيسي معاشات العسكريين، وعلاوات الوزارات، وبالتالي ازاد الفقير فقرًا، والغني ثراءً وفُحشًا!
ثالثًا: على المستوى الاجتماعي:
لقد انهارت البنية المجتمعية للشعب المصري، وتم تقسيم الناس إلى قسمين، وزادت الطائفية والانقسامات حتى في الأسرة الواحدة، وانتشرت نسب الكبت النفسي، والضيق الاجتماعي، والانحلال الأخلاقي، الذي طال كل فئات المجتمع، وأصبح من يظهر تدينه أو التزامه الأخلاقي خارجًا عن السياق العام، ناهيكم عن انتشار الفساد الإداري في معظم مؤسسات الدولة، ولا يستطيع المواطن البسيط إنهاء خدماته إلا بالرشوة أو التعامل من الباب الخلفي!
رابعًا: على المستوى النقابي والمجتمع المدني:
لم نعد نسمع دورًا ملحوظًا للنقابات المهنية التي كانت ملأ السمع والبصر، ولم تفلح انتخابات النقابات العمالية الأخيرة في تحسين صورة الحكومة المصرية فيما يتعلق بحقوق العمال، حيث أعلن الاتحاد الدولي للنقابات العمالية أن مصر تقع ضمن أسوأ 10 دول بالعالم في هذا المجال لعام 2018. وحصلت مصر على 5 درجات فقط على مؤشر الاتحاد، بسبب غياب أي ضمان لحقوق العمال مثل القدرة على تنظيم الإضرابات، فضلًا عن انتشار الممارسات السلبية تجاه العمال، ومن بينها قمع الاحتجاجات السلمية والاعتقالات الجماعية وغياب القوانين الملزمة لأصحاب العمل، كما أحكم السيسي سيطرته على منظمات المجتمع المدني، بهدف تجنب أي احتجاجات شعبية، وإلقاء القبض على عشرات من الناشطين في المجال الحقوقي والنقابي وفصلهم من عملهم.
خامسًا: على مستوى الحقوق والحريات العامة:
تقمع سلطات السيسي حرية الرأي والتعبير، وتطال الاعتقالات كل النشطاء رافضون لسياساته الفاشلة، ولم ينج من القبضة الأمنية الشديدة، كلاً من الداعين لتظاهرات 30 يونيو 2013 والمعارضين للانقلاب العسكري، أيًا كان لونهم أو خلفياتهم، فجميعهم أعداء للسيسي ومن معه! واكتظت السجون ومقرات الاحتجاز بالمعتقلين رجالاً ونساءً وأطفالاً، من كافة الانتماءات السياسية، قدرتها منظمات حقوقية بما يزيد عن 45 ألف معتقل، ونُفذ حكم الإعدام بحق 32 شخصًا في قضايا سياسية، حتى الآن، وصدرت أحكام إعدام بالجملة بحق المئات من الأشخاص بينهم سيدات، وجاءت مصر في المركز 14 عربيًا، والمركز 161 عالميًا، في المؤشر العالمي لحرية الصحافة لعام 2017، الصادر عن منظمة مراسلون بلا حدود، والذي تضمن تصنيف 180 دولة حول العالم، بينهم 22 دولة عربية.
سادسًا: على المستوى الثقافي والفني:
تردت الوضاع الثقافية في مصر، لأن العسكر لا يهمهم هذا الجانب، بل يسعون بكل السبل لتجهيل الشعب المصري، وتوجيهه بوسائله الخاصة، بعيدًا عن تطوير التعليم والثقافة العامة، وجاءت مصر بالمركز 11 عربيًا، والمركز 100 في المؤشر العالمي لجودة التعليم العالي، الصادر عن تقرير التنافسية العالمية لعام 2017-2018، ويقيس المؤشر جودة التعليم العالي والتدريب، في 137 دولة حول العالم، بينهم 14 دولة عربية.
والمجال الفني ليس ببعيد عن سيطرة العسكر، فلا يستطيع أي ممثل أو فنان أن يخرج على الملأ ويُعلن معارضته لسياسات السيسي، أو ترى مشهدًا دراميًا يعبر عن ذلك، بل أصبح العديد من الفنانين يسيرون في فلك السلطة، ويطبلون لها في المناسبات المختلفة، والأمثلة واضحة وحاضرة لدى الجميع، والأوضاع الرياضية في مصر ليست ببعيدة عن الانهيار الذي طالها في مسابقات كأس العالم الأخيرة، وآخر الأسافي تصريح أبو ريدة رئيس اتحاد كرة القدم المصري بأن الإخوان هم سبب خروج المنتخب من المونديال!
سابعًا: على المستوى الأمني:
كانت إحدى الأسباب الرئيسة المعلنة لانقلاب يوليو/تموز 2013 هي مواجهة العنف والإرهاب المحتمل، حسب ما قاله السيسي حينما طلب من المصريين تفويضًا للمواجهة في (2013-7-26)، ولكن هذا الكلام لم يتحقق، بل كانت حجة واهية للسيطرة والتحكم، وكانت إحدى النتائج الرئيسة لذلك تصاعد عمليات العنف والإرهاب الحقيقي. وبينما يتفاقم الوضع الأمني بشكل غير مسبوق، لا توجد مؤشرات على رغبة سياسية أو أمنية في تهدئة الأوضاع، أو مراجعة سياسات الاستئصال، أو حتى تخفيف الحرب على الديمقراطية، ولعل ما يحدث في سيناء، من تهجير أهلها وقتل أبنائها خير مثال على ذلك، ناهيكم عن تردي الأوضاع الأمنية للمواطن البسيط في أماكن مختلفة.
ثامنًا: على المستوى الخارجي:
شهدت السياسة الخارجية المصرية بعد الانقلاب العسكري، تحولات جذرية لا تقل خطورة عن تغيرات المشهد الداخلي، وأصبح دور مصر الخارجي عربيًا ودوليًا ضعيفًا بدرجة واضحة، وأصبح تابعًا لبعض دول المنطقة، خاصة المملكة العربية السعودية، ودولة الإمارات، بل يضاف إلى ذلك أن السياسة الخارجية المصرية تحولت للقيام بأدوار مشبوهة للتآمر على الثورات العربية، والانقضاض على القضية الفلسطينية، وخدمة إسرائيل بشكل علني.
وسارع نظام السيسي لإبرام صفقات بمليارات الدولارات رغم الأوضاع الاقتصادية الصعبة للبلاد، والاعتماد على المساعدات الخليجية ناهيك عن صفقات أخرى تثير كثيرًا من علامات الاستغراب، فقد وقّع النظام اتفاقات مع قبرص واليونان، تضمنت التنازل عن حقوق مصرية في حقول غاز ضخمة في البحر الأبيض المتوسط نكاية في تركيا، كما شملت الصفقات موارد استراتيجية مهمة حيث أقدم النظام على التوقيع على اتفاق ثلاثي مع إثيوبيا والسودان يسمح لأديس أبابا بإقامة سد النهضة، ويهدر للمرة الأولى حقوق مصر التاريخية التي كانت تمنع إقامة أي مشاريع على النيل دون موافقة مصرية، وترسيم الحدود البحرية مع السعودية الذي انتهى بتسليم جزيرتي تيران وصنافير الاستراتيجيتين للسعودية، رغم وجود حكم قضائي بمصريتهما، والتحالف التام مع إسرائيل وتحقيق أجندتها في المنطقة، ودعم قوات حفتر في ليبيا بالتعاون مع الإمارات العربية المتحدة، وأخيرًا المساهمة في حصار قطر بشكل فج!
وبعد كل هذه الانتهاكات والخروقات والانهيارات التي طالت كل مؤسسات الدولة المصرية، لابد أن يسعى كل المخلصين بالوسائل والطرق المختلفة لإزاحة السيسي ونظامه؛ لأنه يشكل خطورة بالغة على مستقبل مصر والمنطقة برمتها.