إن الله قد جعل لكل شيء سببًا، وأمر العباد بتلمس تلك الأسباب حتى يطرقوا سنن الله في ملكوته فتحقق لهم النصرة والغلبة، فأيما أمة قرعت الأسباب من بابها، وتلمّست ما كتب الله على الكون من سنن كُتبت لها السيادة الحضارية، وأيما أمة باتت كسلانة عن البحث في هذه الأسباب أضحت وهي لا تملك من أمر العالم شيئًا، بل لا تملك من أمر نفسها شيئًا، وهذا هو حال الوطن العربي اليوم، فما هي أسباب هذا التعثر الحضاري؟
أسباب تعثر العالم الإسلامي حضاريًا
على الرغم من أن الفكر الإسلامي يمتلك طاقات كبرى لحماية الشخصية المسلمة من الذوبان، إلا أن قضية الاقتباس من الآخر من أخطر المسائل التي اعترضت، وما زالت تعترض الفكر الإسلامي المعاصر، وهي نبض التأخر الحضاري للمسلمين اليوم، فإن هي توقفت أو رُشِّدَت فسوف نرى نور الحضارة في سماء بلادنا الإسلامية؛ لأن الحضارة لا تصنع بمنتوجات حضارية مستوردة، بل هي التي تصنع المنتوجات الحضارية، وهذا هو السبب الأول من أسباب التقهقر الحضاري الذي نحياه الآن.
ومن حاول أن يصنع منتوجات حضارته بيده سوف يجد نفسه مفتقدًا لمقومات الحضارة، ومقومات كل حضارة – كما يرى مالك بن نبي – ثلاثة؛ (الإنسان، والتراب، والوقت)، ومن العجيب أن هذه المقومات الثلاثة تتوفر لكل دول العالم الثالث، وخصوصًا العالم العربي، فمن حيث الإنسانُ، فالإنسان العربي من أفضل العناصر البشرية، ومن حيث الترابُ، فإننا نمتلك أخصب المساحات الترابية على المعمورة، ومن حيث الوقتُ فما أكثره عندنا؟ إلا أنه في الواقع لا حضارة لنا اليوم!! فما هو السبب؟
يرجع الأستاذ مالك بن نبي السبب إلى غياب المركب الحضاري لهذه العناصر الثلاثة، أو قل إن شئت: غياب الرسالة من ذهن المواطن العربي، وهذه الرسالة هي العقيدة الدينية، التي تؤثر على مزج المقومات الحضارية الثلاثة بعضها ببعض، فكل محاولة من الأمة الإسلامية في طريق الحضارة بعيدة عن النظرة العقدية ستبوء بالفشل؛ لأن حقيقة الفكرة الإسلامية أو العقيدة الإسلامية واقع صامد، وكائن موجود في عمق الشخصية والمحيط الاجتماعي للإنسان المسلم، وهي تستجيب دائمًا لطموحات الإنسان المتجددة، بشرط التفاعل مع هذه الفكرة عقيدة وأخلاقًا وحضارة.
لكن الذي حدث في القرن العشرين وما بعده، أن نُسِيَت القيم الدينية الروحية والمبادئ الخلقية السليمة من وفاء ومروءة وأمانة ورحمة، نُسِيَت حياة الفضيلة، واتجه بفعله وعمله فقط إلى الحياة المادية، حياة الغدر والخيانة والقتل والقسوة، غير معترف بغيب، ولا بإله لهذا العالم؛ فعاش في حروب ونزاع وقتال، وشاهد آثار الحرب العالمية الأولى [1914م – 1918م] والثانية [1939م – 1945م] في النصف الأول من القرن العشرين. وهذا هو السبب الثاني من أسباب الغياب الحضاري للأمة الإسلامية اليوم.
والذين اتجهوا إلى بناء العقيدة أساءوا توظيفها، وذلك بتركيزهم على ممارسة العقيدة ممارسة تفضي إلى الآخرة فحسب، تاركين عمارة الكون والأرض؛ ظنًا منهم أن ذلك يعرقل فوزهم بالدار الآخرة؛ فغياب التوظيف الحضاري للعقيدة الإسلامية عند الشخصية الإسلامية المعاصرة أفسح المجالات الدنيوية – إن جاز لنا هذا التعبير – لغير المسلمين فظهر وانتفش، ومن ثم ليست المشكلة في قوة القوي، وإنما المشكلة في ضعف الضعيف، وهذا هو السبب الثالث من أسباب النكسة الحضارية في العالم العربي المعاصر.
والمرض الذي أصاب الأمة الإسلامية اليوم أن أفرادها يفكرون فيما لهم من حقوق ولا يسعون لأخذ هذه الحقوق، يفكرون في ما لهم من مطالب، ولا يؤدون ما عليهم من واجبات، وهذا الذي نشاهده من حال الأمة اليوم تجاه القضايا العامة والخاصة.
إن المجتمع العاجز عن الثورة عاجز – أيضًا – عن التدين، والبلاد التي تمارس الحماس الثوري تمارس نوعًا من المشاعر الدينية الحية، وتلك المشاعر الدينية توجه غالبًا في صورة ثورات لتحقق العدالة والجنة على الأرض، والدين والثورة يولدان في مخاض الآلام والمعاناة.
لكل شيء إذا ما تم نقصان فلا يغتر بطيب العيش إنسان
والمجتمع الإسلامي اليوم غير مستعد لتقديم هذه الصور الحماسية؛ لأنه غير مستعد للتضحية. وهذا هو السبب الرابع من أسباب الانكسار الحضاري الذي نال الأمة الإسلامية في الآونة الأخيرة.
عودة الكيان الحضاري الإسلامي وقهر عوامل السقوط
إن العواصف الجوية والأعاصير تجر وراءها سيولا هائلة من الماء تأتي على الأخضر واليابس بالخراب والدمار، ولكن تلك السيول تترك طميًا يجدد للحياة دورتها، فتنشط الطبيعة وينبعث تيار الحياة من جديد، كذلك الأعاصير الحضارية، أو بتعبير أدق: الأحداث التاريخية الكبرى، تكتب الدمار على حضارة معينة، أو تحدث الخراب والبوار في أمة بعينها، إلا أن تلك الأعاصير وهذه الأحداث الكبرى تترك وراءها طميًا حضاريًا من دماء الشهداء يكون باعثًا لنفوس تلك الأمة من بعد هذا الدمار وهذا الخراب، كذلك تترك طميًا من نوع آخر، ألا وهو ما تخلفه في العقول حيث تترك بذور تنبت منها الأفكار التي تغير مجرى التاريخ ووجه العالم.
فعلى المسلم أن يطرح بعث الحضارة بمنطق البقاء حتى يستطيع أن يتقدم واضعًا أمامه القانون الإنساني العام الذي وضعه الله عزوجل للناس جميعًا: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) (الرعد: 11) والناظر في الآية الكريمة يجد أن كلمة “قوم” نكرة لإفادة العموم والشمول، فهي تشمل كل قوم سواء في ذلك القانون المؤمن والكافر، لطالما أخذ بأسباب الشهود الحضاري.
نحن المسلمين إذا أردنا أن نأخذ مكاننا في هذا الشهود الحضاري فعلينا أن نؤدي دورنا كما رسمه لنا الله عزوجل: )كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) (آل عمران: 110) والمتأمل في الآية يجد أن أول صفة من صفات الأمة الموصوفة بالخيرية هي: “تأمرون بالمعروف” والصفة الثانية “وتنهون عن المنكر” فهاتان الصفتان جاءتا على صورة الجملة الفعلية التي تفيد من ناحية التجدد والاستمرار، ثم إن الجمل من ناحية أخرى دائما نكرات، والنكرات تفيد العموم، وهذا العموم واقع على نوع المأمور به والمنهي عنه، ومن ثم دلت جملة “تأمرون بالمعروف” على كل معروف سواء أكان في شأن الدنيا أم الآخرة، وعلى هذا فإقامة المصانع والورش، وإصلاح الطرقات والمصارف، وتشييد المدارس ومدائن العلم، وارتياد الفضاء واكتشاف كنهه، وإقامة المنظومات الاقتصادية والسياسية والعلمية والإدارية وغيرها مما يعود بالنفع على الناس كل ذلك يدخل في قوله تعالى: “تأمرون بالمعروف” وصدق ابن تيمية حين قال: العبادة هي: “اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة”.
وعلى العكس من ذلك فإن كل إفساد وفساد في الأرض، وكل شيء يعود بالضرر على الناس سواء في أمور العبادة والنسك أو في أمور الدنيا يدخل في إطار المنكر الذي أمرنا الله بإزالته في قوله تعالى: “وينهون عن المنكر”؛ ذلك أن الحضارة ذات الجانبين المادي والروحاني في المفهوم الإسلامي لا تنقسم وإنما تتكامل.
وكما يقول مالك بن نبي: “لا يوجد في طبيعة المفهوم الإسلامي للحضارة إيمان عبارة عن مشاعر في الوجدان، وتصورات في الذهن لا ترجمة لها في واقع الحياة، إن الإيمان الحق هو الذي يحيا، وليس هناك إيمان هو مجرد شعائر تعبدية ليس معها عمل يكيف منهج الحياة كله ويخضعه لشريعة الله؛ لأن المسلم مطالب بأداء شهادة لهذا الدين، وبكل تكاليفها في النفس والجهد والمال”.