في البداية لابد من التسليم بأن أهل مكة أدرى بشعابها، وأن كل دولة وكل فصيل سياسي له ظروفه وملابساته، وأن صاحب القرار دائمًا هو الذي يتحمل نتيجة قراراته سواء بالإيجاب أو بالسلب، والشعوب إما أن تكون عونًا لصاحب الفكرة، وذاك الفصيل، وتتحمل الصعاب وتقف في وجه التحديات، أو تنجرف مع التيار ولا تستطيع الصمود ضد المـؤامرات التي تحاك لها.
تجربة رائدة
ولا شك أن تجربة النهضة في تونس كانت الرائدة في المنطقة العربية، وفي بلدان الثورات العربية؛ لتعاملها المتميز مع الأحداث، وعدم تعجّلها لتصدّر المشهد التونسي برغم حصولها على عدد أصوات كبيرة في المجلس الوطني التأسيسي، وفي مجلس النواب، بعد ثورة الياسمين، إلا أنها تعاملت بحكمة نتيجة للظرف الإقليمي والدولي بعد الثورات العربية، لمعرفتها بكم التآمر الذي يحاك ببلدان الثورات العربية، وخصوصًا من دولة الإمارات الداعمة للثورات المضادة، والانقلابات العسكرية في المنطقة.
ولعل ما حدث في مصر يجعل الكثيرون يشفقون على تونس ونهضتها من أن تقع في نفس الفخ الذي نُصب للإخوان المسلمين بتسلمهم السلطة دون أن يكون لهم ظهير في مؤسسات الدولة، مما عجّل بالقضاء على تجربتهم في الحكم، والانقضاض على المسار الديمقراطي بالانقلاب العسكري الذي دبّر له السيسي بمعاونة المملكة العربية السعودية، والإمارات العربية المتحدة.
تباين الآراء حول ترشيح النهضة لمنصب الرئاسة
اختلفت الآراء وتباينت حول مشاركة النهضة بمرشح في الانتخابات الرئاسية، والدفع بنائب رئيس البرلمان التونسي، ونائب رئيس الحركة عبد الفتاح مورو لهذا المنصب الكبير، وهل هذا تكتيك مرحلي لمكاسب سياسية مستقبلية، أم أنها ستخوض التجربة إلى نهايتها بكل تبعاتها؟
فمن ذهب مع حق الترشح واقتناص الفرصة، يقولون إن تونس تختلف عن مصر، وحركة النهضة لم تتصدر المشهد مباشرة بعد الثورة ولكنها تحالفت مع بعض الأحزاب، فيما سُمي بالترويكا، ومنها حزب “نداء تونس” الذي خرج منه الرئيس التونسي السبسي، الذي وافته المنية منذ أيام.
ومن يرى عدم الدخول في هذا المعترك لأن الأوضاع الإقليمية والدولية ربما تكون عقبة في وصول النهضة إلى هذا المنصب، وأن ما تعانيه تونس من أوضاع اقتصادية متردية لن تستطيع النهضة القيام بحلها في هذا الوقت، وخصوصًا أن بعض الدول في المنطقة ممن يحملون لواء الثورة المضادة سيحولون دون تحقيق النهضة لأي تقدم في اتجاه رئاسة الدولة.
وهناك من يرى حق ترشيح النهضة لأحد قياديها، ولكن ربما يتحفظون على ترشيح عبدالفتاح مورو، لغلبة لغة الخطابة على أحاديثه، وأنه محسوب على فئة المشايخ المعممين.
ومن يرى أنه من واجب النهضة عدم الدخول في هذا المعترك والدفع بشخصية محسوبة على الثورة مثل الدكتور المنصف المرزوقي الرئيس الأسبق، حتى لا يتم تفتيت الأصوات وإعطاء الفرصة للمال السياسي لكي يعمل عمله، وربما تأتي شخصية محسوبة على النظام القديم.
واقع الحال في تونس للتنافس على الرئاسة
تم غلق باب الترشح للانتخابات الرئاسية المبكرة في تونس التي ستقام في الخامس عشر من سبتمبر/أيلول المقبل، ووصل عدد من قدّموا أوراق ترشحهم للانتخابات إلى 98 مرشحًا، تم رفض أوراق 66 مرشحًا لعدم توافر شروط الترشح التي حددتها اللجنة العليا المستقلة للانتخابات.
ومن أبرز المرشحين رئيس الحكومة الحالي (يوسف الشاهد) عن حزب “تحيا تونس”، ونائب رئيس حركة النهضة ورئيس مجلس النواب بالإنابة (عبد الفتاح مورو)، ووزير الدفاع (عبد الكريم الزبيدي)، مدعومًا من حزب “نداء تونس” والذي تردد كثيرًا على السبسي، قبل وفاته وهو من المرشحين البارزين لخلافته، و(حمادي الجبالي) رئيس الحكومة الأسبق بعد الثورة، و(محسن مرزوق) الذي قدّم ترشحه عن حزب “مشروع تونس”، ورجل الأعمال والإعلام والدعاية القوي (نبيل القروي)، رافعًا شعار الدفاع عن الفقراء، بالرغم من أن القضاء وجه له تهمًا بتبييض الأموال.
وفي سابقة في العالم العربي، قدم المحامي التونسي (منير بعتور) الذي يرفع لواء الدفاع عن المثليين.
وحددت الدعاية الانتخابية من 2 إلى 13 سبتمبر/أيلول، وبعد يوم الصمت الانتخابي، يدلي الناخبون بأصواتهم في 15 سبتمبر/أيلول.
عقبات في طريق النهضة
من أهم العقبات التي ستواجه النهضة، هو أنها بترشيح أحد قادتها لهذا المنصب المهم سيدفع بالمنظومة القديمة وحلفائها من اليمين الليبرالي والسلفي، ومن اليسار للتوافق على مرشح وحيد للوقوف ضد مرشح النهضة، وستعمل الآلة الإعلامية الجبارة التي يسيطرون عليها في تونس مثلما فعلت في 2014 نحو توجيه الرأي العام للتصويت ضدهم، ومنذ الجولة الأولى، بحجة الدفاع عن النمط التونسي أو المشروع الحداثي أو البورقيبي ضد الظلامية والرجعية، كما يدّعون، وستدعمهم بعض المواقع والقنوات الإعلامية العربية المأجورة في مصر والإمارات والسعودية، بكل الوسائل وبكل الطرق الشريفة وغير الشريفة، وسيقومون بتشويه الشيخ عبد الفتاح مورو والتقليل من شأنه بكل الوسائل الخبيثة.
وربما يصل الشيخ عبد الفتاح مورو للدور الثاني في تلك الانتخابات، ولكن فوزه برئاسة البلاد يبدو أمرًا صعبًا في ظل الظروف الحالية في الداخل والخارج لأنه ومهما كان عدد الأصوات التي سيتحصّل عليها في الدور الأول، فإن الكل سيتحالف ضده في الدور الثاني، ولن يكون الرئيس في النهاية إلا من تدعمه قوى إقليمية ودولية، إلا إذا حصلت مفاجأة أو معجزة، والكلمة الأخيرة، بطبيعة الحال، للشعب التونسي القادر على اختيار رئيسه بشكل ديمقراطي.
ومن أبرز من يرى عدم جدوى ترشيح النهضة لمنصب الرئاسة أستاذ العلوم السياسية الكويتي الدكتور عبد الله النفيسي حيث قال: “أنصح حركة النهضة في تونس بالابتعاد عن الانتخابات الرئاسية، وألاّ تقع في نفس الخطأ الذي وقع فيه الإخوان في مصر عندما رشّحوا المرحوم بإذن الله محمد مرسي واكتشفوا بأن (الدولة العميقة) ضدهم، حتى لو فازت النهضة فإن (الدولة العميقة) في تونس ستسُقطها”.
أقول لا شك أن حركة النهضة حينما اتخذت قرار المشاركة في الانتخابات الرئاسية جاء ذلك بعد دراسة الأوضاع الداخلية والخارجية، وأن من حقها الترشح لهذا المنصب، كما هو حق كل فصيل سياسي، ولكن في تقديري أن الظروف التي تعيشها تونس على المستويين الاقتصادي والاجتماعي، والأوضاع الإقليمية والدولية لا تتناسب مع هذا القرار في هذ الوقت بالذات، ومن الأفضل دعم شخصية محسوبة على الثورة التونسية مثل الرئيس الأسبق المنصف المرزوقي، إلى أن يكون لها أرضية كافية في مؤسسات الدولة تسمح لها بخوض غمار هذه التجربة دون تكاليف باهظة.