تصاعدت وتيرة التوتر بين واشنطن وطهران في الفترة الأخيرة بشكل مغاير لما سبق، وخصوصًا أن ترامب جاء بأجندة واضحة، وهي الدعم الكامل والواضح لإسرائيل، والوقوف في وجه كل من يعترض طموحات الكيان الصهيوني في المنطقة العربية، حيث هدد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إيران قائلا “سوف يتألمون كثيرا … إذا فعلوا أي شيء”، متهمًا إياها بالتخطيط لتنفيذ “هجمات” ضد مصالح أمريكية في الشرق الأوسط.
وأتى تصريح ترامب بُعيد تصاعد التوتر في الخليج؛ إثر تعرّض أربع سفن شحن تجارية لأعمال “تخريبية” بحسب ما أعلنت الرياض وأبو ظبي.
تحسُّب أمريكي
وتقول إدارة ترامب منذ أكثر من أسابيع إن السلطات الإيرانية أو حلفاءها في الشرق الأوسط يستعدون لتنفيذ “هجمات وشيكة” على المصالح الأمريكية، وقد أرسلت حاملة طائرات وسفينة حربية وقاذفات بي 52 وبطارية صواريخ باتريوت.
وقام وزير الخارجية مايك بومبيو بزيارة لم يعلن عنها مسبقًا لبروكسل في الفترة السابقة؛ لتبادل المعلومات السرية حول الموضوع مع نظرائه الأوروبيين، فيما قال المبعوث الأمريكي لإيران براين هوك: “نعتقد أن إيران يجب أن تسير في طريق المحادثات بدلاً من التهديدات، لقد اتخذوا خيارا خطأ بالتركيز على التهديدات”.
وذكرت صحيفة “نيويورك تايمز” أن وزير الدفاع الأمريكي بالإنابة باتريك شاناهان قدّم خلال اجتماعه مع عدد من مستشاري ترامب لشؤون الأمن القومي خطة تقضي بإرسال ما يصل إلى 120 ألف جندي أمريكي إلى الشرق الأوسط إذا هاجمت إيران القوات الأمريكية.
وفي سياق آخر نجد أن الولايات المتحدة وإيران يؤكدان على أنهما لا يرغبان في دفع الأمور إلى المواجهة العسكرية، ولكن التصعيد الأمريكي بطبيعته يستدعي ردًّا إيرانيًّا، لاسيما أن طهران لا ترى أنها في مواجهة مع الولايات المتحدة وحسب، بل ومع حلفائها الخُلَّص في الإقليم كذلك مثل: إسرائيل، السعودية، والإمارات.
وقد وصل التوتر حدًّا دفع ممثلين ديمقراطيين وجمهوريين في الكونغرس إلى التحذير من تدهور الوضع، بغير تخطيط مسبق من أي من الطرفين، إلى حرب لا تحمد عواقبها، مذكِّرين بأن ترامب انتخب على وعد بوضع نهاية لتورط الولايات المتحدة في حروب الشرق الأوسط.
فعلى أي أسس يبني أطراف هذه الأزمة المتفاقمة حساباتهم؟ وأي خيارات يملكها كل من أطراف الأزمة؟ وهل توحي مؤشرات التصعيد بين الطرفين بحقيقة ما يجري بالفعل من اتصالات بينهما؟
حقيقة العلاقة بين واشنطن وطهران
الإدارات المتعاقبة للولايات المتحدة الأمريكية تعاملت مع إيران بسياسة المنافع المشتركة بينهما في المنطقة العربية، حيث حققت إيران خلال العقدين الماضيين قفزات عديدة مما جعلها مهيمنة في الشرق الأوسط، فقد أحدث غزو العراق في 2003 فراغًا مباشرًا في جوار إيران العراقي اللصيق، وأفسح الانسحاب الأمريكي من العراق بعد ذلك المجال لتعزيز هذا النفوذ، وبناء تحالف وثيق مع سوريا، كما وفَّر دعمًا هائلًا لحزب الله في لبنان.
وعندما قررت إدارة أوباما، سابقًا، العودة إلى المنطقة لمواجهة تهديد تنظيم الدولة، اضطرت لغض الطرف عن النفوذ الإيراني المباشر في الساحتين العراقية والسورية، نظرًا للدور الذي لعبته إيران في محاربة التنظيم، وخلال السنوات القليلة الماضية، أصبحت إيران بصورة عسكرية مباشرة، أو عبر حلفائها، لاعبًا رئيسًا في العراق وسوريا ولبنان واليمن.
إذن أهداف إدارة ترامب تتجاوز الملف النووي، فمستوى العقوبات التي فرضتها إدارة ترامب على إيران لم تصل إليه أية إدارة سابقة، ولا حتى عقب احتجاز الرهائن الأمريكيين في سنوات الجمهورية الإسلامية الأولى، ومؤشرات استعداد واشنطن للتعامل بالمثل مع أي استفزاز إيراني عسكري لم يعد ثمة مجال لتجاهله، وبالرغم من انتقادات الكونغرس والمنظمات الحقوقية الدولية، تستمر واشنطن في توفير الدعم اللوجستي والاستخباراتي للسعودية والإمارات في حرب اليمن.
وإلى جانب استمرار الوجود العسكري الأمريكي في العراق، أرسلت واشنطن رسالة واضحة للنظام السوري وحلفائه الروس بأن عملية إعادة إعمار سوريا لن تبدأ قبل أن تنسحب منها إيران، والميليشيات التابعة لها.
في النهاية، تعمل إدارة ترامب على أن تجبر النظام الإيراني على توقيع اتفاق حول الملف النووي أكثر تشددًا، وعلى تراجع ملموس في الإقليم، لاسيما في سوريا، ويعتقد البعض في إدارة ترامب أن إيقاع هزيمة مزدوجة بنظام الجمهورية الإسلامية، مقرونة بمصاعب اقتصادية متعاظمة، سيدفع قطاعات واسعة من الشعب الإيراني إلى التحرك ضد النظام وقادته.
ما تكشفه هذه التطورات في سياق الأزمة أن كلا الطرفين يُظهر خلف الأبواب المغلقة مرونة لا تتفق كلية مع التشدد وخطوات التصعيد المعلنة، ولكن هذا لا يعني أن التصعيد وهمي، فثمة قدر من عدم الثقة المتبادل بين الطرفين يجعل من المبرر الاحتياط لنوايا الطرف الآخر.
ابتزاز دول الخليج هدف ترامب من التصعيد ضد إيران
لا شك أن المملكة العربية السعودية وإسرائيل تدفعان في اتجاه زيادة حالة التوتر مع إيران، وتأملان أيضًا أن تتطور الأزمة إلى مواجهة مسلحة بين الطرفين، ولكن أغلبية قادة الإدارة الأمريكية، بما في ذلك الرئيس، لا تريد حربًا مع إيران.
ومن ثمَّ أعتقد أن الأمور ستهدأ قليلًا في الفترات القادمة، ولن تصل الأمور إلى حالة إعلان الحرب المباشرة، لأن المصالح المشتركة بين الطرفين لا يمكن تجاهلها، ويمكن لإيران أن تضر بالمصالح الأمريكية في المنطقة العربية، إذا فكرت إدارة ترامب في اتخاذ هذا الموقف.
ولكن في تقديري أن ترامب، كعادته، يريد أن يستفيد من حالة التوتر هذه، بإشاعة الرعب والخوف داخل الدول الخليجية من احتمال نشوب حرب بين الطرفين، مما يجعل تلك الدول، وخصوصًا أنها في أضعف حالاتها، أن تستجيب طواعية لكل رغباته ومطالبه، على الرغم من الإهانات المتوالية للمملكة العربية السعودية في أكثر من موقف، دون أي تحرك لحفظ ماء الوجه!
وعلى ذلك نجد أن جوهر هذه “العملية” هو استغلال مشاعر الخوف والرفض السعودي الإماراتي تجاه إيران ونفوذها الإقليمي المتصاعد، وبالتالي ترسيخ أحد الافتراضات الضمنية لهذه “العملية” وهو أن ما من أحد قادر على الوقوف في وجه إيران سوى إسرائيل ولهذا ينبغي أن يذعن عرب الخليج لقيادتها، ويدينوا لها أيضًا بالشكر على حمايتهم.
ولعل الأرقام التي تُدفع للتسليح في منطقة الخليج خير مثال على ذلك، حيث تشير إلى أن أكثر من 100 مليار دولار خُصصت لشراء السلاح خلال هذا العام 2019، فضلا عن الإنفاق الفلكي الذي خصصته السعودية لمجالات التسلح عام 2017 ووصلت إلى 450 بليون دولار.
لهذا، ليس ثمة مبالغة في القول بأن الإبقاء على المنطقة تغلي فوق نار من الصراعات والتوترات والحروب التي يرافقها إنفاق خيالي لشراء السلاح الذي يصب في المصارف الأمريكية، وأن أنجع السبل لحماية هذه الاستثمارات الضخمة في السنوات المقبلة هو الاستثمار في عملية التخويف من البعبع الإيراني، حتى تبقي منطقة الشرق الأوسط مسكونة بشبح اندلاع الحرب.