تعيش لبنان منذ عقود في تقلبات سياسية وظروف أمنية شديدة الحساسية، مغايرة لما يحدث في المنطقة العربية، وذلك لحالة الخلطة السياسية المُمثلة لمُكون السلطة الحاكمة، حيث يتم اختيار الرئيس من طائفة، ورئيس الوزراء من طائفة أخرى، ورئيس مجلس النواب من طائفة ثالثة، كما أن التدخلات الخارجية، المتمثلة بشكل أكبر في فرنسا وسوريا وإيران والسعودية، لها تأثير كبير على مجريات الأمور داخل لبنان.
ولا تزال تداعيات تفجير بيروت تسيطر على العالم وتحتل صدارة المشهد السياسي والاقتصادي، بسبب فداحة الكارثة وحجمها المروّع، الذي خلّف أكثر من 175 قتيلًا، وأكثر من 6000 جريحًا، وحوالي 40 مفقودًا حتى الآن، وألحق أضرارًا مادية كبيرة بغالبية أحياء بيروت، خصوصًا القريبة من موقع الانفجار، وأصبح عدد كبير من السكان بلا مأوى يصل عددهم إلى 300 ألف نسمة.
كما زاد الانفجار من أوجاع بلد يعاني منذ أشهر، تداعيات أزمة اقتصادية قاسية، واستقطابًا سياسيًا حادًا، في مشهد تتداخل فيه أطراف إقليمية ودولية.
كارثة مرفأ بيروت وتداعياتها
قبل أن تقع الكارثة الكبرى سبقها حريق واسع في مرفأ بيروت، وأظهرت مقاطع فيديو على منصات التواصل الاجتماعي سحابة دخان أبيض تنبثق من العنبر رقم (12) في مستودع يقع مقابل صوامع تخزين حبوب ضخمة في المرفأ، الذي كان يحتوي على نحو 2750 طنًا من “نترات الأمونيوم” شديدة الانفجار، كانت مصادرة ومخزّنة منذ عام 2014.
وبعد الساعة السادسة بالتوقيت المحلي بقليل اشتعلت النيران في المستودع، وكان هناك انفجار أولي كبير أعقبته سلسلة انفجارات صغيرة بدت، بحسب بعض شهود العيان، أشبه بالألعاب النارية.
وبعد نحو 30 ثانية، حدث انفجار مهول أرسل في الهواء سحابة ضخمة على شكل فطر وانتشر عصفه ودويه في المدينة.
وأدى الانفجار الثاني إلى تدمير البنايات القريبة من المرفأ، وتسبب في دمار وأضرار في الكثير من أحياء العاصمة الأخرى، التي يقطنها نحو مليوني نسمة، وغصّت المستشفيات بسرعة بضحايا الانفجار من جرحى وقتلى.
ودمّر الانفجار منطقة رصيف الميناء، وخلّف حفرة يقدّر عرضها بنحو 140 مترًا، وقد امتلأت بمياه البحر.
وأظهرت صور الأقمار الاصطناعية مشهد دمار كبير في منطقة الميناء، وتبدو إحدى السفن فيها قد قذفت خارج مياه البحر لتسقط على الرصيف من شدة عصف الانفجار.
وقد تكسّر من جراء دوي الانفجار زجاج النوافذ في بوابة المسافرين في مطار بيروت الدولي الواقع على بعد نحو تسع كيلومترات عن موقع الانفجار في مرفأ بيروت.
وقد سُمع دوي الانفجار في جزيرة قبرص الواقعة على بعد 200 كيلو متر في البحر الأبيض المتوسط.
وقال خبراء الزلزال في مركز المسح الجيولوجي في الولايات المتحدة الأمريكية إن قوة الانفجار تعادل هزة أرضية بدرجة 3.3 على مقياس ريختر.
استقالة حكومة دياب والطريق إلى المجهول
توالت الاستقالات في صفوف السياسيين اللبنانيين في إطار التداعيات السياسية لانفجار مرفأ بيروت والأزمة الاقتصادية المستمرة منذ أشهر وانسداد أفق الإصلاح، حيث أعلن وزراء الإعلام والبيئة والعدل والمالية استقالتهم، في حين ارتفع عدد النواب المستقيلين إلى 8 نواب، بعد مرور 5 أيام من الفاجعة، وتبعهم استقالة حكومة حسان دياب بكاملها.
وقد وصف دياب منظومة الفساد في استقالته التي أعلنها مساء الاثنين (10 – 8 -2020) بأنها متجذرة في كل مفاصل الدولة وهي أكبر من الدولة، وقال: “فسادهم (الطبقة السياسية) أنتج هذه المصيبة المخبأة منذ 7 سنوات، والمطلوب هو تغييرهم لأنهم مأساة الشعب اللبناني الحقيقية، وهم لم يقرؤوا ثورة اللبنانيين في 17 تشرين/ أكتوبر 2019 لكنهم لم يفهموا أنها كانت ضدّهم”، ووصف الطبقة السياسية بأنها الأخطر على لبنان وأنها “تعيش على الفتن وتتاجر بدماء الناس”.
وقال: “بيننا وبين التغيير جدار سميك جدًا وشائك جدًا تحميه طبقة تقاوم بكل الأساليب من أجل الاحتفاظ بمكاسبها ومواقعها وقدرتها على التحكّم بالدولة”.
وجاء إعلان استقالة الحكومة وسط تظاهرات كبيرة شهدها محيط مجلس النواب في وسط بيروت، حيث يطالب المحتجون باستقالة مجلس النواب بعد الحكومة، ورفع المتظاهرون شعارات تعتبر أن استقالة الحكومة لا تعني شيئًا أمام هول مأساة الانفجار الضخم، وطالبوا بإزاحة ما يصفونها بالطبقة الحاكمة الفاسدة.
فهل تساهم استقالة الحكومة في الوصول إلى نتائج ملموسة لمعرفة المتسبب الحقيقي في هذه الجريمة البشعة، وتُرضي الشارع اللبناني، أم أنها تهرب من المسؤولية التي أعلن عنها دياب سابقًا، بتصريحه بأن الحكومة ستبقى لشهرين لكي تعطي القوى والأحزاب السياسية الفرصة لحل جذور المشكلة السياسية في لبنان؟
وهل يمكن أن تشمل التحقيقات الجارية كبار المسئولين ورؤساء الحكومات السابقين، أم أنها تقتصر فقط على الموظفين كبارهم وصغارهم؟
وخصوصًا بعد أن كشفت مستندات سرية، حسب وكالة رويترز، الثلاثاء 11 أغسطس/آب 2020، أن الرئيس اللبناني ميشال عون ورئيس حكومته المستقيل حسان دياب تلقّيا تحذيرًا قبل وقوع كارثة انفجار بيروت بأسبوعين فقط من حدوثها.
أزمات تلو أزمات فهل من سبيل؟
لقد واجه المجتمع اللبناني أزمات كثيرة في تاريخه، مرّ بحروب أهلية عدّة واجتياحات إسرائيلية ووصاية سورية، وتعرّض لضغوط مختلفة، وأعلنت بعض البنوك إفلاسها في الستينيات والثمانينيات من القرن الماضي، وعانى من انهيار سعر صرف الليرة وموجات التضخّم المنفلت بين عامي 1982 و1992، وعانى أيضًا من تراكم العجز المالي، والمديونية الباهظة.
ويواجه هذا المجتمع أزمة أخرى تُضاف إلى أزماته، ويشعر الناس بالقلق ويعبّرون عن التشاؤم وفقدان الثقة بإمكانية تجاوزها كما تجاوزوا الأزمات السابقة، ما يطرح سؤالاً مهمًا: هل الأزمة الراهنة هي الأكبر والأصعب؟ هل هي الأسوأ؟ وهل هناك مخرج منها؟
مع العلم أن معظم اللبنانيين يشككون في وعود الحكومة بتحقيق شفاف ومحاسبة المسؤولين، ويرون أن التحقيق محاولة من نخبة سياسية متهمة بالفساد والإهمال وسوء الإدارة لتفادي تحميلها أي مسؤولية عن الكارثة.
ومن ثمَّ لابد من إدراك أن كلمة “إصلاح” في الوضع اللبناني هي كلمة فارغة من المضمون، ولن تتمكن من حل الأزمة، فـالإصلاحات الاقتصادية التي تحدث برعاية صندوق النقد الدولي، تعني خفض العجز في الموازنة الحكومية، والدين الخارجي على حساب خفض الدعم الحكومي للمواطنين، وتعويم الليرة اللبنانية.
أي أن ذلك بطبيعة الحال سوف يحسن مؤشرات الوضع المالي والتجاري، لكن ذلك يتطلب ألا يأكل اللبنانيون لعدد من السنوات، لمواجهة صعوبة هذه الإصلاحات.
لقد خرج الناس في لبنان إلى الشوارع، بعد انهيار الليرة اللبنانية، وخفض الاستيراد، وارتفاع أسعار جميع السلع، مع إعلان الحكومة عن عجزها لسداد الديون.
وهنا نصل إلى الأزمة على المستوى السياسي، فلبنان نسق سياسي فريد من نوعه، فهو خليط بين طوائف عديدة، ولا يمكن إجراء أي تغيير في ظل النخبة السياسية الحالية المُتحكِّمة في السلطة الغارقة في المحاصصة الطائفية، حتى لو جرت انتخابات رئاسية ونيابية جديدة، فسوف تفرز نفس التكتلات والأشكال التي لم تتغير منذ عشرات السنين، ومن ثمَّ لابد من تغيير قوانين الانتخابات، حتى تفرز نخبة سياسية جديدة، تكون قادرة على التغيير المأمول، وإبعاد كل أشكال الطائفية الحزبية عن المشهد السياسي.
الأمر الثاني شديد الارتباط بهذه المسألة، هو عدم السماح للتدخل الخارجي في الشأن الداخلي للبنان، لفرض شروط معينة، أو تشكيلة سياسية محددة، فالشعب اللبناني قادر بإرادته، واختياراته الحرة أن ينقذ لبنان من هذا المستنقع السياسي، لأن النخب السياسية اللبنانية الحالية ليس بإمكانها تقديم أي بدائل وحلول لتوقف تدهور الوضع الراهن، وانهيار الاقتصاد.
إن ما يجري الآن في لبنان من احتجاجات، هو تظاهرات الأغلبية الصامتة غير الحزبية من الشعب، وليس بوسع النظام السياسي منحها أي متنفس للضغط الذي تعاني منه، بتقديم بدائل سياسية.
ومن ثمَّ وجب على اللبنانيين حل مشاكلهم بأنفسهم، وعدم التعويل على الخارج، واختيار قيادة مناسبة لهذه المرحلة تستطيع أن تنتشل لبنان من هذا الوحل السياسي، الذي أفقر لبنان، وكبَّلها بالضغوط الخارجية، والديون المتراكمة، وترشيد الاستهلاك وخفض النفقات.
وأي حكومة بالتشكيلة السياسية الحالية التي تتسم بالطائفية لن تستطيع القيام بالمطلوب، بل ستزيد المشهد السياسي تعقيدًا، والاقتصادي تأزيمًا.