د. جمال نصار – المجتمع الكويتية
العدل ضد الظلم، يقال: عدل الشيء وعدله أقامه وسواه، وعكسه: الجور، والحيف، والظلم، فالجور: العدول عن الحق، والحيف: الميل في الحكم والجور فيه، والظلم: مجاوزة الحدّ، ومفارقة الحق، ووضع الشيء في غير موضعه إما بزيادة، أو بنقصان([1]).
والمراد بالعدل: أن يعطى كل ذي حق حقه بلا بخس ولا ظلم ولا إفراط ولا تفريط([2]).
وقد حث القرآن الكريم على العدل، وجعله هدف الرسالات السماوية، يقول تعالى: (لَقَدۡ أَرۡسَلۡنَا رُسُلَنَا بِٱلۡبَیِّنَـٰتِ وَأَنزَلۡنَا مَعَهُمُ ٱلۡكِتَـٰبَ وَٱلۡمِیزَانَ لِیَقُومَ ٱلنَّاسُ بِٱلۡقِسۡطِۖ) (الحديد: 25).
فالرسالات السماوية كلها، على اختلاف أزمانها وأماكنها، إنما جاءت لتقر في الناس مبادئ الحق والعدل، فهي تضع ميزانًا واحدًا، ومعيارًا واحدًا يقاس به الناس، فلا محاباة لجنس على حساب الآخر، ولا محاباة للون على الآخر، وإنما هذا الميزان كفيل بأن يقيم العدل بين الناس؛ لأن منزِّله هو رب الناس جميعًا، الذي لا يحابي أحدًا على حساب أحد، ولا يحابي أمة على حساب أمة أخرى، إنما جعل للناس المنهج الذي يضمن لهم الحياة في ظل الحق والعدل([3]).
يقول الله تعالى: (إِنَّ ٱللَّهَ یَأۡمُرُ بِٱلۡعَدۡلِ وَٱلۡإِحۡسَـٰنِ وَإِیتَاۤىِٕ ذِی ٱلۡقُرۡبَىٰ وَیَنۡهَىٰ عَنِ ٱلۡفَحۡشَاۤءِ وَٱلۡمُنكَرِ وَٱلۡبَغۡیِۚ یَعِظُكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَذَكَّرُونَ) (النحل: 90)، ويقول أيضًا: (وَٱلسَّمَاۤءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ ٱلۡمِیزَانَ أَلَّا تَطۡغَوۡا۟ فِی ٱلۡمِیزَانِ وَأَقِیمُوا۟ ٱلۡوَزۡنَ بِٱلۡقِسۡطِ وَلَا تُخۡسِرُوا۟ ٱلۡمِیزَانَ) (الرحمن: 7 – 9)، ويقول تعالى: (وَلَا یَجۡرِمَنَّكُمۡ شَنَـَٔانُ قَوۡمٍ عَلَىٰۤ أَلَّا تَعۡدِلُوا۟ ٱعۡدِلُوا۟ هُوَ أَقۡرَبُ لِلتَّقۡوَىٰۖ) (المائدة: 8).
وقد حثت السنة النبوية الشريفة على إقامة العدل بين الناس، فمن ذلك ما روي عن النبي، صلى الله عليه وسلم: (إنَّ المُقْسِطِينَ عِنْدَ اللهِ على مَنابِرَ مِن نُورٍ، عن يَمِينِ الرَّحْمَنِ عزَّ وجلَّ، وكِلْتا يَدَيْهِ يَمِينٌ، الَّذِينَ يَعْدِلُونَ في حُكْمِهِمْ وأَهْلِيهِمْ وما ولوا)([4])، وعن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: (سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ يَومَ القِيامَةِ في ظِلِّهِ، يَومَ لا ظِلَّ إِلّا ظِلُّهُ: إِمامٌ عادِلٌ…)([5]).
وحضّ النبي، صلى الله عليه وسلم، على ضرورة مقاومة الظلم، وحذر من مغبة التقاعس عن ذلك، فقال: (إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب)([6]).
وقد حرّم الله الظلم على نفسه، بقوله تعالى: (يا عِبادِي إنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ على نَفْسِي، وَجَعَلْتُهُ بيْنَكُمْ مُحَرَّمًا، فلا تَظالَمُوا…)([7]). ودعوة المظلوم مستجابة، قال، صلى الله عليه وسلم: (اتَّقِ دَعْوَةَ المَظْلُومِ، فإنَّها ليسَ بيْنَها وبيْنَ اللَّهِ حِجابٌ)([8]).
“هذا التقدير الكامل للعدل والإدانة الشديدة للظلم هما اللذان يفسران لنا عدل عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، الذي بلغ حدًا لا يحلم ببلوغه خيال الفلاسفة المتفائلين، ويفسران تخوف كبار فقهاء المسلمين من مناصب القضاء وتهربهم من توليها، حتى بلغ الأمر بالولاة الاضطرار إلى سجن بعض العلماء والفقهاء قسرًا على قبول منصب القضاء”([9]).
والعدل له صور عديدة منها:
أولًا: العدل مع النفس: وذلك بالتوازن بين حق البدن، من الراحة والعناية والطعام والشراب، وحق الروح من الزاد الإيماني والعبادات المحضة، ومن جانب آخر يوازن المسلم بين حق النفس، وحق الله، وحق الأهل والأولاد، فلا يجعل حقًا من هذه الحقوق يطغى على حق آخر فإن في ذلك ظلمًا.
وقد أكّد الصحابي الجليل سلمان الفارسي في حديثه لأبي الدرداء على هذا المعنى: (إنَّ لنفسِكَ عليكَ حقًّا، ولربِّكَ عليكَ حقًّا، ولضَيفِكَ عليك حقًّا، وإنَّ لأهلِكَ عليكَ حقًّا، فأَعط كلَّ ذي حقٍّ حقَّه، فأَتَيا النبيَّ، صلى الله عليه وسلم، فذَكَرا ذلكَ؟ فقال له: صدَقَ سَلْمان)([10]).
فعلى المرء أن يعدل مع نفسه أولًا، حتى لا يعرضها لعذاب الله بانحرافها عن الحق والعدل، فهو إن فعل ذلك يكون ظالمًا مع نفسه، يقول تعالى: (وَمَن یَتَعَدَّ حُدُودَ ٱللَّهِ فَقَدۡ ظَلَمَ نَفۡسَهُ) (الطلاق: 1).
ثانيًا: العدل مع الأهل والأولاد: فمن صور العدل أن يعدل الزوج مع زوجته فلا يظلمها، وينبغي على الوالدين أن يعدلوا في معاملاتهم لأولادهم، فلا ينبغي لهم أن يفضلوا أحد الأبناء على الآخرين، فيعطونه من الهبة أكثر مما يعطوا الآخرين، أو يخصونه بالعطية دون غيره من إخوته، فإن ذلك يغرس بذور الحقد والكراهية في قلوب الأولاد، فينشئ بينهم العداوة والبغضاء.
وقد روي عن النعمان بن بشير، رضي الله عنهما، قال: (تَصَدَّقَ عَلَيَّ أَبِي ببَعْضِ مالِهِ، فَقالَتْ أُمِّي عَمْرَةُ بنْتُ رَواحَةَ: لا أَرْضى حتّى تُشْهِدَ رَسولَ اللهِ، صلى الله عليه وسلم، فانْطَلَقَ أَبِي إلى النبيِّ، صلى الله عليه وسلم، لِيُشْهِدَهُ على صَدَقَتِي، فَقالَ له رَسولُ اللهِ، صلى الله عليه وسلم: أَفَعَلْتَ هذا بوَلَدِكَ كُلِّهِمْ؟ قالَ: لا، قالَ: اتَّقُوا اللَّهَ، واعْدِلُوا في أَوْلادِكُمْ، فَرَجَعَ أَبِي، فَرَدَّ تِلكَ الصَّدَقَةَ)([11]).
ثالثًا: العدل بين الزوجات: فقد أباح الله تعدد الزوجات، وجعل له قيدًا لا بد منه، وهو العدل فيما يملك الإنسان العدل فيه، يقول تعالى: (فَٱنكِحُوا۟ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ ٱلنِّسَاۤءِ مَثۡنَىٰ وَثُلَـٰثَ وَرُبَـٰعَۖ فَإِنۡ خِفۡتُمۡ أَلَّا تَعۡدِلُوا۟ فَوَ ٰحِدَةً أَوۡ مَا مَلَكَتۡ أَیۡمَـٰنُكُمۡۚ ذَ ٰلِكَ أَدۡنَىٰۤ أَلَّا تَعُولُوا۟) (النساء: 3).
أما الميل القلبي إلى إحداهن فهذا مما ليس للإنسان فيه إرادة، ما لم يُبْن على هذا الميل أمرًا ماديًا، يقول تعالى: (وَلَن تَسۡتَطِیعُوۤا۟ أَن تَعۡدِلُوا۟ بَیۡنَ ٱلنِّسَاۤءِ وَلَوۡ حَرَصۡتُمۡۖ فَلَا تَمِیلُوا۟ كُلَّ ٱلۡمَیۡلِ فَتَذَرُوهَا كَٱلۡمُعَلَّقَةِۚ وَإِن تُصۡلِحُوا۟ وَتَتَّقُوا۟ فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِیمًا) (النساء: 129).
أما أن يميل الإنسان إلى إحدى زوجاته فيغدق عليها من كل الخيرات ويحرم الأخرى، فإن هذا ظلم حرمه الله، بل ينبغي عليه أن يعدل بينهن في كل الأمور المادية.
رابعًا: العدل في الشهادة: وذلك بأن تؤدي الشهادة على وجهها الصحيح دون تزييف أو تزوير للحقائق، يقول تعالى: (وَأَشۡهِدُوا۟ ذَوَیۡ عَدۡلٍ مِّنكُمۡ وَأَقِیمُوا۟ ٱلشَّهَـٰدَةَ لِلَّهِۚ) (الطلاق: 2)، ويقول: (یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ كُونُوا۟ قَوَّ ٰمِینَ لِلَّهِ شُهَدَاۤءَ بِٱلۡقِسۡطِۖ) (المائدة: 8)، ويقول أيضًا: (وَمَنۡ أَظۡلَمُ مِمَّن كَتَمَ شَهَـٰدَةً عِندَهُۥ مِنَ ٱللَّهِۗ) (البقرة: 140).
خامسًا العدل الاجتماعي: عمل الإسلام على تقليل الفجوة بين الأغنياء والفقراء، فشرّع الوسائل التي من شأنها أن ترفع من شأن الفقراء، ومن هذه الوسائل: الزكاة التي تؤخذ من الأغنياء وترد للفقراء، قال تعالى: (إِنَّمَا ٱلصَّدَقَـٰتُ لِلۡفُقَرَاۤءِ وَٱلۡمَسَـٰكِینِ وَٱلۡعَـٰمِلِینَ عَلَیۡهَا وَٱلۡمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمۡ وَفِی ٱلرِّقَابِ وَٱلۡغَـٰرِمِینَ وَفِی سَبِیلِ ٱللَّهِ وَٱبۡنِ ٱلسَّبِیلِۖ فَرِیضَةً مِّنَ ٱللَّهِۗ وَٱللَّهُ عَلِیمٌ حَكِیمٌ) (التوبة: 60).
سادسًا: العدل في الحكم: العدل في كل مجالات الحياة أمر مطلوب، وخصوصًا في مجال الحكم، يقول تعالى: (وَإِذَا حَكَمۡتُم بَیۡنَ ٱلنَّاسِ أَن تَحۡكُمُوا۟ بِٱلۡعَدۡلِۚ) (النساء: 58)، فالحاكم أو رئيس الدولة، قاضي بين طبقات الأمة وفئاتها، وهو الذي يملك السلطة التي تستطيع إنفاذ العدل أو عرقلته، وهذا ينطبق أيضُا على القضاة الذين يحكمون بين الأفراد، ويقومون بسن القوانين العادلة التي تسيّر أمور الناس.
سابعًا: العدل مع غير المسلمين: فمن عظمة الدين الإسلامي أنه لا يفرق بين المسلم وغيره من أصحاب الديانات الأخرى في العدل؛ لأن الله، عز وجل، وضعه لينعم به كل الناس، يقول تعالى: (یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ كُونُوا۟ قَوَّ ٰمِینَ لِلَّهِ شُهَدَاۤءَ بِٱلۡقِسۡطِۖ وَلَا یَجۡرِمَنَّكُمۡ شَنَـَٔانُ قَوۡمٍ عَلَىٰۤ أَلَّا تَعۡدِلُوا۟ ٱعۡدِلُوا۟ هُوَ أَقۡرَبُ لِلتَّقۡوَىٰۖ وَٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَۚ إِنَّ ٱللَّهَ خَبِیرُۢ بِمَا تَعۡمَلُونَ) (المائدة: 8).
فالله تعالى إنما استخلف هذه الأمة لتقيم العدل بين الناس، فإن هي تخلت عن هذه الرسالة، فإنها لم تعد صالحة للاستخلاف، بل يؤخرها الله لتكون في مؤخرة الأمم، ولذلك قال ابن تيمية: “إن الله يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا يقيم الظالمة وإن كانت مسلمة”([12]).
([1]) المعجم الوسيط: 2 / 609
([2]) أخلاق الإسلام وأخلاق دعاته، ربيع إبراهيم، ص208
([3]) الأخلاق الإسلامية ودورها في بناء المجتمع، جمال نصار، ص195
([4]) صحيح مسلم، حديث رقم (1827)
([5]) صحيح البخاري، حديث رقم (6806)
([6]) سنن أبي داود، حديث رقم (4338)
([7]) صحيح مسلم، حديث رقم (2577)
([8]) صحيح البخاري، حديث رقم (2448)
([9]) الإمام الشافعي، عبد الحليم الجندي، ص224
([10]) صحيح البخاري، حديث رقم (1968)
([11]) صحيح مسلم، حديث رقم (1623)
([12]) مجموع الفتاوى، ابن تيمية، 28 / 63