الحقيقة أنه من الصعوبة الحديث عن موقف عربي موحد تتضامن فيه كل الدول العربية تجاه الحرب الدائرة بين روسيا وأوكرانيا، ويمكن أن ينطبق على العرب المثل العربي الشهير “لا ناقة لي فيها ولا جمل”، للتعبير عن عدم التأثير في الأحداث الجارية. وصاحب هذه المقولة هو الحارث بن عبَّاد الذي رفض مساعدة بني شيبان عندما لجأوا إليه لدرايتهم بحنكته وخبرته في إدارة الحروب وحل المنازعات، وذلك في حربهم الشهيرة ضد قبيلة بني تغلب، وهي حرب البسوس التي استمرت أربعين عامًا بين القبيلتين، والتي كانت مضرب المثل في الشؤم بين العرب فيقولون أشأم من البسوس، وتم بعد ذلك استخدام هذه العبارة.
لقد حددت كل دولة عربية موقفها وفقًا لمدى حيوية العلاقة والمصالح التي تربطها بروسيا من ناحية، والولايات المتحدة من ناحية أخرى. وتتأرجح المواقف العربية بين إدانة الهجوم الروسي والدعوة إلى الحوار، وقد انعكس هذا بوضوح في تصويت الدول العربية على قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة في ختام جلستها الطارئة، يوم 2 مارس/آذار الحالي، الذي يطالب روسيا بالتوقف الفوري عن استخدام القوة ضد أوكرانيا حيث صوتت 15 دولة عربية لصالح القرار، وامتنعت ثلاث دول عن التصويت، هي الجزائر والسودان والعراق، وعارضت القرار سوريا، فيما تجنب المغرب الإحراج وغاب ممثله عن جلسة التصويت، كما امتنعت الإمارات عن التصويت على قرار إدانة روسيا داخل مجلس الأمن.
أقول إذا كان النظام السوري قد حسم أمره منذ البداية وبوضوح في اتخاذ موقف داعم لموسكو خلال الأزمة الراهنة، وإعلانه المستمر عن دعمه لروسيا بالميليشيات، والتصريحات السياسية؛ فإن الوضع بالنسبة لباقي الدول العربية لا يزال أكثر تعقيدًا وضبابية، ومحكوم بعوامل عدة، وسيبقى مرهونًا بسير الأحداث وتطورها الذي ستكشف عنه المرحلة القادمة.
والواقع أن هذه الحرب ليست حربًا بين الديكتاتورية والديمقراطية، ولا بين شرعية أو لا شرعية، فقد عملت أمريكا والغرب على حرمان الشعوب العربية من الحرية والديمقراطية، وتحقيق آمالها، ودعموا ديكتاتوريات في كل مكان في العالم، فأمريكا ليست حريصة على القانون الدولي كما تزعم، وروسيا لها مصالحها التي تسعى لتحقيقها دون أي اعتبار لمصالح هذا الشعب أو ذاك، وقد ساهمت بشكل كبير في تدمير سوريا، ومساعدة نظام الأسد على مواجهة ثورة الشعب السوري. إذن الممارسات التي تمارسها روسيا والغرب لا تنم إلا عن السعي لمصالحهم فقط، وليس لديهم أي اعتبار للواقع العربي، طالما أن الأنظمة العربية في حالة تبعية وانكسار لهذا أو ذاك.
تداعيات الحرب على الأمن الغذائي في المنطقة العربية
تمثل صادرات القمح من روسيا وأوكرانيا نحو 30 في المئة من حجم المعروض في الأسواق العالمية، وكذلك ما يتعلق بمواد غذائية أساسية أخرى مثل الذرة والزيوت النباتية، وتعد أوكرانيا خامس أكبر مصدر للقمح في العالم.
وتعتمد دول عربية كثيرة على استيراد القمح الروسي أو الأوكراني بالدرجة الأولى لسد حاجتها المحلية، وهذا يبرز طبيعة الأزمة التي ستنتج عن الحرب الدائرة رحاها بين الدولتين، ومن الدول العربية التي تعتمد في احتياجاتها على القمح الروسي والأوكراني: مصر، والجزائر، وليبيا، واليمن، ولبنان، وتونس، وهي في عمومها دول تعاني من أزمات معيشية قد تزيد معاناة شعوبها جرّاء ارتفاعات محتملة في أسعار القمح نتيجة قلة حجم المعروض في السوق العالمية.
وتعتمد دول مجلس التعاون الخليجي على استيراد القمح ومعظم المواد الغذائية الأخرى في سد حاجة السكان، بينما تعد دول مثل: إيران والجزائر من البلدان التي تحتل المراكز العشرة المتقدمة كأكبر دول مستوردة للقمح في العالم، في حين تستورد مصر نحو 60 في المئة من حاجتها إلى القمح من روسيا وحوالي 30 في المئة من أوكرانيا.
ومن المرجح أن تتأثر مصر بشدة أكثر من غيرها باعتبارها أكبر مستورد للقمح في العالم؛ إذ استوردت حوالي 12.5 مليون طن من القمح في السنة المالية 2020-2021، وقد حصلت على 85% من هذه الواردات من روسيا وأوكرانيا، كما تُعتبر الجزائر، وتونس، وليبيا من أكبر مستوردي القمح في العالم أيضًا، وبالتالي فمن المتوقع أن تتأثر تلك الدول كذلك.
أقول: لا يمكن مواجهة هذه الأزمة الغذائية في العالم العربي إلا بتحقيق الاكتفاء الذاتي من الغذاء، وطبيعة المناخ العربي تسمح بذلك، ولكن يتطلب إرادة من الأنظمة العربية لتحقيق استقلالها عن الغرب والشرق، وتبني مشاريع تنموية وطنية حقيقية، ولكن للأسف الدول العربية لم تتبن استراتيجية تحقيق الأمن الغذائي للشعوب العربية، بسبب خياراتها الاقتصادية والاجتماعية القائمة على نهج التبعية للغرب، فأهدرت أمن المواطن العربي في الغذاء.
والحقيقة أن الحرب الروسية على أوكرانيا رغم بعدها جغرافيًا عن المنطقة العربية، فإنها كشفت السلبيات والأعطاب التي خلّفها النظام السياسي العربي على مدى عقود بفعل عدم تحقيقه استقلالًا ذاتيًا، في الأمن الغذائي كما هو الحال مع باقي المجالات التي تعدّ الدول العربية رهينة لتوجهات الغرب وخياراته، بالتالي لا تسهم في صياغتها، أو التأثير على مجرياتها، وستبقى عاجزة عن تحقيق أبسط المتطلبات التي تحول بين شعوب المنطقة الغنية بثرواتها ومساحاتها الجغرافية الكبرى، وبين هزات اجتماعية قد تكون بسبب رغيف الخبز، والقمح، وغلاء الأسعار. وإذا كان الوضع كذلك، فكيف بانخراطها الفعّال بما يحمي مصالح دولها وشعوبها في سياقات دولية متشابكة، وصراعات هنا وهناك من أجل تحقيق المصالح على حساب المبادئ.
الإمارات تغرد خارج السرب
على الرغم من ممارسات نظام الأسد الإجرامية في حق شعبه، واستنكار الشعوب العربية والإسلامية لما قام به بشار الأسد من قتل لمئات الآلاف من الشعب السوري، وتهجير الملايين، وتدمير الدولة بشكل كبير، إلا أنه مع ذلك، تم استقباله من قِبل حكّام الإمارات (محمد بن زايد، ومحمد بن راشد) يوم الجمعة الموافق (18 – 3 – 2022) في الإمارات.
وتعدّ هذه أول زيارة لدولة عربية يقوم بها الأسد منذ اندلاع الثورة السورية عام 2011، وتأتي بعد أشهر من زيارة وزير الخارجية والتعاون الدولي الإماراتي، عبد الله بن زايد آل نهيان لدمشق. وذلك ضمن خطوات لكسر عزلة النظام السوري من قِبل دولة الإمارات، إذ سبق وتلقّى الأسد اتصالاً في 27 مارس/آذار 2021 من ولي عهد أبوظبي محمد بن زايد، وكان أول اتصال مباشر بين زعيم عربي ورئيس النظام السوري منذ عام 2011.
فبعد التطبيع العلني والكامل مع الكيان الصهيوني، تسارع أبوظبي لتكون أول الدول العربية التي يزورها بشار الأسد، مع انشغال العالم بالحرب الدائرة بين موسكو وكييف. وهذا يطرح العديد من الأسئلة المتعلقة بالدور الوظيفي للإمارات في المنطقة، وهل سيتبع هذه الخطوة خطوات لاحقة، ومن ثمَّ تطبيع بعض الدول العربية الأخرى مع نظام الأسد، مثلما هرول البعض بعد الإمارات للتطبيع مع إسرائيل؟
وفي المجمل أظن أنه ليس لدي الأنظمة العربية ما يمكن أن يضيفوه في التحولات الجارية بين الشرق والغرب، فقد ألفوا دور الضحية والتبعية، ولا عزيمة لديهم للانتقال من خانة المفعول بهم إلى خانة الفاعل، فقد أدمنوا الامتثال لمطالب الغرب، والبعد لمسافات طويلة عن الاستقلال والتحرر الوطني.