د. جمال نصار
المنطقة العربية تعيش منذ فترة حالة من عدم الاستقرار، بسبب الصراعات الداخلية في بعض الدول، والحروب والمنازعات في البعض الآخر، وتختلف حدة هذه الصراعات من مكان لآخر، حسب طبيعة الفاعلين في كل صراع، وخصوصًا بعد حالة الانكسار التي أصابت الثورات العربية، نتيجة لممارسات أنصار الثورة المضادة المدعومة إقليميًا ودوليًا.
فحينما اندلعت الثورات العربية في العديد من الدول (تونس، ومصر، واليمن، وليبيا، وسوريا) بعثت الأمل ببزوغ فجر جديد لشعوب المنطقة، بعد أن رزحت تحت الحكم الدكتاتوري الاستبدادي لعشرات السنين، وعانت من القهر والجوع والإحباط، وكانت هذه الثورات بمثابة بارقة أمل للشعوب بالحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية بعد عشرات السنين من الإحباط واليأس.
ولم يمض وقت طويل حتى تبددت أحلام الشعوب التي كسرت حاجز الخوف وملأت الشوارع بالاحتجاجات السلمية من قبل كل الفئات، وخاصة الشباب والنساء وفئات الطبقة الوسطى. لقد تم إجهاض الربيع العربي ودخلت بعض الدول العربية في حالة من الصراعات والحروب الداخلية وأدت لانهيار دول، ودخول أخرى في حالة صراع لم ينته بعضها منه حتى اليوم.
وهناك مجموعة من العوامل التي أسهمت في فشل هذه الثورات، أو انكسارها، وإن بدرجات متفاوتة:
العامل الأول: هو غياب القيادة لهذه الثورات، فقد كانت الجماهير التي نزلت للشوارع تضم فئات عديدة من شعوب هذه الدول لم تفرز قيادات وطنية قادرة على بلورة أهداف الثورة، وضبط تحركاتها وتكتيكاتها من أجل الوصول للهدف المنشود، فغياب قادة وطنيين في أغلب الدول التي شهدت هذه الثورات أسهم في ضعف هذه القوى وقدرتها على تحقيق أهدافها، وأفسح المجال لأطراف عدة للتحكم بها والعمل على تناقضاتها وبالتالي إضعافها.
العامل الثاني: أن هذه القيادات الميدانية للثورات لم تستطع أن تحافظ على تماسك قوى الاحتجاج، ما سهّل عملية تفكيكها أو التحكم بها لاحقًا، واستغلالها وتحويل تأثيرها لصالح الأنظمة القديمة، وخصوصًا العسكر في نموذج مصر الذي استطاع بالقليل من الدهاء الهيمنة على مخرجات الثورة المصرية.
والعامل الثالث: مرتبط بطبيعة القوى المعارضة التي استطاعت الولوج للسلطة في بعض الدول بعد هذه الثورات والتي كانت منظمة، علاوة على أنها لم تستوعب باقي القوى التي شاركت في الثورة، واعتمدت على قوتها وشعبيتها، وغاب عن بعضها أن المراحل الانتقالية تحتاج إلى مشاركة الجميع.
كل ذلك وفر مناخًا معاديًا لهذه القوى سواء كانت من قبل الدولة العميقة، أو من بعض الفئات السياسية والاجتماعية التي أسهمت بشكل مُباشر في إحداث ردة على هذه القوى التي لم تكن قادرة على أن تكون جامعة للكل.
والعامل الرابع: التدخل الخارجي من القوى العالمية والإقليمية على خط الثورات العربية في محاولة هندستها حسب مصالحها ومحاولة توجيهها لمسارات معينة تتماشى مع رؤيتها لمصالحها الاستراتيجية في المنطقة؛ حيث بلغ هذا التدخل ذروته في التدخلات العسكرية في بعض هذه الدول كسوريا، وليبيا، سواء بالاصطفاف مع الأنظمة أو المعارضة المسلحة، وخاصة المتطرفة منها.
هذا التدخل حوّل الاحتجاجات السلمية والثورات في بعض هذه الدول إلى كابوس من الصراع المسلّح الذي أدى لتشتت قوى الثورة السلمية وتحويلها لنزاعات مسلحة كان لها آثار كارثية على شعوب تلك الدول والدول المجاورة لها.
إن النتيجة التي وصلت إليها الثورات العربية لا يمكن اعتبارها نهائية، بل يجب النظر إليها كمحطة مهمة في سلسلة طويلة من التحولات السياسية التي تخضع لها هذه الدول. لكن الأسباب التي أدت لاندلاع هذه الثورات لا تزال قائمة، ولا يجب أن نستبعد موجة أخرى من تلك الثورات التي يصعب التوقع بتوقيتها، وربما تكون أكثر عنفًا من سابقتها.
هل من سبيل للتغيير بطرق ديمقراطية؟
تمنى كثيرون في الوطن العربي أن تتفتح أزهار الحرية والديمقراطية والعيش الكريم، ونهاية الاستبداد الذي جثم على الصدور لسنوات طويلة، وبمشاركة حقيقية في السلطة، وبتوزيع عادل للثروة يخرجهم من دائرة الفقر والبطالة.
ولكن الصورة الآن تبدو مخيبة للآمال إلى حد كبير، ونظرًا لأن الثورات لم تحقق التغيير المنشود باتجاه الحرية والتعددية والمساواة، على الأقل حتى الوقت الراهن، يتساءل كثيرون: هل الثورات فعلاً أفضل طريق لتغيير المجتمعات العربية، أم أن هناك بدائل أخرى يمكن أن تغير هذه المجتمعات بتكلفة أقل، وبدون الدخول في صراعات تعصف باستقرار هذه المجتمعات؟
فالحالة التي تعيشها المجتمعات العربية، هي حالة استقرار بالإكراه والبطش بآلة القمع القاسية العنيفة، وليس استقرارًا حقيقيًا مبنيًا على الحرية والعدالة والمساواة، فلم يكن هناك اختيار في العديد من الدول العربية بين الطريق السلمي للإصلاح وبين الثورة، بل على العكس حاولت تيارات سياسية كثيرة انتهاج التغيير السلمي المتدرج، ولكن للأسف وجدت جدارًا متصلبًا من الرفض من قبل الأنظمة العربية، وأصبح المطروح في عدة دول هو الاختيار بين التوريث أو التمديد، وعندما تفشل محاولات الإصلاح يواجه المجتمع خيارين: إما الاستسلام والقبول بالواقع المرير، وإما الانفجار والثورة على النظام القائم سعيًا لتحقيق أهداف الشعوب في الحرية والكرامة والعدالة.
إنه من الطبيعي أن تدخل المجتمعات التي تشهد ثورات في فترة من عدم الاستقرار، وذلك لأن أصحاب المصالح في المنظومة القديمة يحاولون إعادة الأوضاع إلى ما كانت عليه، ويتلقون الدعم من قوى إقليمية ترفض الديمقراطية، ومن ثمَّ تواجه المجتمعات صراعًا بين قوى تسعى للإصلاح والتقدم، وقوى تريد الارتداد للأوضاع السابقة على الثورات. ربما يعاني المجتمع لفترة، ولكنه ثمن يدفعه المجتمع لتحقيق ما تتطلع إليه الشعوب من حرية وكرامة، وحتى إن تعثرت الثورات فإنها لم تنته ولم تفشل.
وفي الواقع نرى أن الأنظمة العربية تقدم درجة محدودة من الأمن والاستقرار للمواطن طالما ظل بعيدًا عن انتقادها، فإذا تجرّأ المواطن ومارس بعض حقوقه في انتقاد السلطة فسينتهي عهد الاستقرار بالنسبة له.
الحوار حول التغييرات الهائلة التي تشهدها المنطقة العربية لا يتوقف، والخلاف حول الطريق الأفضل للنهوض بها لا ينتهي، لكن الواضح أن الشعوب العربية تتطلع إلى يوم لا تجبر فيه على الاختيار بين الاستبداد وبين الفوضى، ويبدو أن الطريق إلى هذا اليوم المنشود ما يزال طويلاً.
والخلاصة أننا نحتاج إلى إلقاء نظرة عميقة ومقارِنة للتجارب الثورية التي قامت في العصر الحديث، وذلك لمعرفة العوائق التي واجهتها والأزمات التي مرت بها، وليس الغرض من ذلك إسقاط تلك التجارب بحذافيرها على البلدان العربية، فحتمًا لكل بلد تجربته وخصوصياته، ولكن قد يساعدنا ذلك على فهم واقعنا وإدراك التحديات والعوائق التي تواجه ثوراتنا، وما هو الطريق الأمثل للتغيير، وتمكين الشعوب من اختيار ممثليهم، ومن ثمَّ من يحكم.
والحقيقة التي لا مناص عنها، أن المنظومة العربية لن تستطيع الخروج من تخلفها الحالي إلا بإيجاد نظام سياسي كفء، يتناسب مع متطلبات العصر، تستطيع فيه جميع مكوّنات المجتمع المشاركة والتفاعل من أجل حلول أفضل لمشكلاته. نظام ديمقراطي يتوازن فيه الحاكم والمحكوم، ويتم تداول السلطة فيه بطريقة حضارية، وتتطور فيه القوانين والأداء بشكل حضاري من دون اللجوء إلى قعقعة السلاح، والمهاترات الكلامية، وتقسيم المجتمع.