د. كمال أصلان – مجلة المجتمع الكويتية
ها هو شهر رمضان الكريم قد انقضى، ورحل سريعًا كعادته، تاركًا وراءه قلوبًا تعلقت بالطاعة، ونفوسًا ذاقت لذة القرب من الله، عز وجل، ولكن السؤال الأهم الذي ينبغي أن يطرحه كل مسلم على نفسه: وماذا بعد رمضان؟ هل كنا نعبد الله في رمضان فقط، أم أن رب رمضان هو رب كل الشهور؟
الواجب على المسلم أن يعبد الله ويبتعد عن معصيته في كل وقت وحين، كما قال سبحانه: (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) (الحجر: 99)، أي داوم على عبادة الله والإنابة إليه في كل حياتك؛ حتى تأتيك منيَّـتك وينتهي عمرك في هذه الحياة، لأن حياة الإنسان ملك لله، والله يريد من العبد أن يعمرها بطاعته وعبادته لا بشيء آخر قال تعالى: (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (الأنعام: 162).
إن شهر رمضان كان محطة تربوية عظيمة، يتعلم فيها المسلم الصبر، والإخلاص، والتقوى، والبذل، والرحمة، قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة: 183)، فالغرض الأساسي من الصيام هو تحقيق التقوى، فهل سنحافظ عليها بعد رمضان؟
علامات قبول الأعمال بعد رمضان
من علامات قبول الطاعات أن يثبت العبد عليها بعد انتهاء مواسم الخير، قال الحسن البصري، رحمه الله: “إن من علامة قبول الحسنة الحسنة بعدها، وإن من علامة ردها العودة إلى السيئات بعدها”، فمن كان صادقًا في عبادته في رمضان، سيحرص على ألا تنقطع صلته بالله بعده.
فالمؤمن الصادق لا يفرح فقط بأداء العبادات، بل يسأل الله القبول، ويبحث عن العلامات التي تدل على استجابة الله له، وقد ذكر العلماء بعض الدلائل التي يمكن أن تكون بشائر على قبول الأعمال بعد رمضان، منها:
أولًا: الاستمرار في الطاعة: فمن أقوى العلامات على قبول الطاعات في رمضان أن يواصل العبد أعماله الصالحة بعد انتهائه، فالصيام والقيام وقراءة القرآن ليست عبادة موسمية تنتهي بانتهاء الشهر، وإنما هي سلوك حياة للمؤمن، قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: (أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل) (متفق عليه). فإذا وجدت نفسك محافظًا على العبادات التي كنت تؤديها في رمضان، فهذا مؤشر على أن الله قد تقبل منك.
ثانيًا: الشعور بالخشوع والقرب من الله: إذا أحسست بعد رمضان بزيادة الإيمان وقوة العلاقة مع الله، فهذه علامة خير، قال الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) (الأحقاف: 13)، فالاستقامة بعد رمضان دليل على أن الله قد وفقك إلى عمل صالح ورضي به.
ثالثًا: مجاهدة النفس على الاستمرار: رمضان يُعين العبد على تهذيب نفسه، وبعده يأتي الاختبار الحقيقي، فهل سيحافظ على مكاسبه أم سيعود إلى ما كان عليه؟ ومن علامات القبول أن يجاهد الإنسان نفسه ليظل قريبًا من الله، وأن يستمر في أداء العبادات حتى لو لم يكن الجو محفزًا كما كان في رمضان.
رابعًا: تجنب المعاصي والذنوب: إذا وجدت نفسك بعد رمضان أكثر حرصًا على تجنب الذنوب التي كنت تقترفها سابقًا، فهذا دليل على أن الله قد طهر قلبك في رمضان، قال الله تعالى: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا) (النحل: 92)، أي لا تكونوا ممن يعود إلى المعاصي بعد أن كان في حالة طاعة.
خامسًا: حب الخير والإحسان للناس: كان المسلم في رمضان يسارع إلى الصدقة وفعل الخير، فإذا استمر على هذا النهج بعد رمضان، فهذه علامة قبول، قال النبي، صلى الله عليه وسلم: (اتقوا النار ولو بشق تمرة) (متفق عليه)، مما يدل على أن العطاء المستمر من أسباب رضا الله وقبوله للأعمال.
سادسًا: الخوف من عدم القبول: فالمؤمن لا يغتر بعمله، بل يكون بين الخوف والرجاء، فقد كان الصحابة، رضي الله عنهم، يجتهدون في رمضان، ثم يقلقون من عدم القبول، كما قالت عائشة، رضي الله عنها: “كانوا يجتهدون في العمل الصالح، ثم يسألون الله القبول”.
والقبول من الله نعمة عظيمة، ولا أحد يعلم يقينًا إن كان قد قُبِل عمله أم لا، لكن من رأى في نفسه هذه العلامات فليستبشر، ونسأل الله أن يجعلنا من المقبولين، وأن يرزقنا الثبات بعد رمضان.
مواقف عملية من حال الصحابة والسلف بعد رمضان
كان الصحابة، رضي الله عنهم، أشد الناس حرصًا على أن يتقبل الله منهم أعمالهم، فقد كانوا يجتهدون في الطاعة ثم يقلقون من عدم القبول، تطبيقًا لقوله تعالى: (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَىٰ رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ) (المؤمنون: 60)، فهذا هو عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، كان يقول: “لو أعلم أن الله تقبل مني سجدة واحدة لتمنيت الموت”، لأن الله يقول: (إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) (المائدة: 27)، وكان علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، يقول: “كونوا لقبول العمل أشد اهتمامًا من العمل نفسه”.
ولم يكن الصحابة يكتفون بصيام رمضان، بل كانوا يحرصون على صيام التطوع طيلة العام، ولم يكن قيام الليل خاصًا برمضان عند الصحابة، بل كان جزءًا من حياتهم اليومية.
وكان الصحابة والسلف لا يهجرون القرآن بعد رمضان، بل كانوا يحرصون على قراءته وتدبره يوميًا، فعثمان بن عفان، رضي الله عنه، كان يختم القرآن مرة كل أسبوع، وعبد الله بن مسعود، رضي الله عنه، كان يقول: “من أحب أن يعلم أنه يحب الله، فلينظر إلى القرآن، فإن كان يحب القرآن فهو يحب الله، فإنما القرآن كلام الله”.
ولم يترك الصحابة الصدقة بعد رمضان، فأبو بكر الصديق، رضي الله عنه، كان أكثر الصحابة إنفاقًا في سبيل الله، وعمر بن الخطاب، رضي الله عنه، تصدق بنصف ماله في سبيل الله، وعبد الله بن المبارك، رحمه الله، كان يجتهد في الصدقة حتى بعد رمضان، وكان يقول: “لولا العلم لما اخترت إلا التجارة، لعلني أنفق في سبيل الله”.
وكان الصحابة والسلف لا ينقطعون عن الدعاء بعد رمضان، بل كانوا يجتهدون فيه طوال العام.
فلنتخذ من الصحابة والسلف قدوة، ولنحرص على الاستمرار في العبادات، ونسأل الله أن يجعلنا من الذين قال فيهم: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) (الأحقاف: 13).
ومن أهم الأمور التي تساعد العبد على الثبات بعد رمضان؛ وضع خطة عملية لمواصلة العبادات طوال السنة، من خلال:
- تخصيص أوقات يومية لقراءة القرآن والتدبر فيه.
- متابعة صيام التطوع وجعله جزءًا من الروتين الشهري.
- الاشتراك في أعمال خيرية تطوعية لتنمية روح العطاء.
- البحث عن الصحبة الصالحة التي تعين على الثبات.
- تحديد أهداف روحانية شهرية لتحقيق النمو المستمر في الإيمان.
- تنظيم الوقت بحيث يكون للعبادة نصيب يومي ثابت.
- جعل الأعمال الدنيوية عبادة بالنية الصالحة، كالسعي في الرزق بنية إعفاف النفس.
- المحافظة على الأذكار اليومية التي تزيد من القرب من الله حتى أثناء الانشغال.
- استثمار أوقات الفراغ في الاستماع إلى المحاضرات الدينية أو قراءة الكتب النافعة.
وفي الختام أقول: إن وداع رمضان لا يعني وداع الطاعات، بل هو بداية رحلة جديدة من الثبات والاستمرار في عبادة الله. نسأل الله أن يتقبل منا رمضان، وأن يرزقنا الثبات على الطاعة، وأن يبلغنا رمضان القادم ونحن في صحة وإيمان.