لم تكن المعاملات في الإسلام بعيدة عن ملاحظة الجانب الأخلاقي، ولذلك كان من وصايا الرسول، صلى الله عليه وسلم، ما ينص على السماحة في البيع والشراء، واستيفاء الحقوق “رحم الله رجلا سمحًا إذا باع، وإذا اشترى، وإذا اقتضى”([1]).
وكان من وصاياه، صلى الله عليه وسلم، الوصية بمراقبة الله، عز وجل، في الشركة حتى تتنزل بركة الله على الشركاء، وكان من وصاياه النهي عن الغش وتطفيف الكيل والميزان لما يؤديان إليه من مظالم ولما يدلان عليه من قلة الورع وقلة مراقبة الله، عز وجل، وعدم الحذر من عقابه، امتثالا لقول الله تعالى: )وَأَوْفُوا الكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ المُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (([2]).
وكان من وصاياه في الزواج الحرص على ذات الدين معللا ذلك بما يتحقق للزوجة الصالحة من كريم الأخلاق مع زوجها “تنكح المرأة لأربع: لمالها، ولحسبها، وجمالها، ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك“([3]).
ثم كان من عناية الإسلام بالأخلاق أنه دعا إلى أن يتواصى الناس بالحق وإلى أن يكون من بينهم )أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ)([4])، وجعل ذلك من خصائص الأمة المستخلفة من الله، البالغة في مرضاة الله أرفع المقامات )كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ(([5]).
ثم تأتي الحدود لتمثل عنصر الردع للذين يخرجون عن عقائد الدين، وقيمه وشرائعه، ولتكون سياجًا يحمي أهل الحق من أهل الباطل، ولتحفظ على الناس دينهم وأخلاقهم وأعراضهم وأموالهم.
وهكذا تتغلغل الأخلاق في بناء الإسلام كله، ولذلك كان طبيعيًا أن ترتبط درجة الأخلاق بدرجة الإيمان، فكلما تأصل الإيمان في القلب ورسخ فيه تأصلت الأخلاق ورسخت([6]).
ولذلك كان طبيعيًا، أيضًا، أن ينفي الله الإيمان بالدين عن من يقعون في بعض الرذائل لأن مقتضى الدين البعد عنها قال تعالى: )أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ اليَتِيمَ وَلاَ يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ المِسْكِينِ(([7])، وكذلك فعل الرسول، صلى الله عليه وسلم، حين قال: “لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له”([8]).
وعلى هذا نستطيع أن نقول إن “الإسلام ليس عقيدة قلبية فحسب، ولكنه نظام يتضمن جميع قوانين المجتمع، إنه عقيدة وعبادة وأخلاق، كما أنه تشريع ونظام للمجتمع، ومبادئ عن الاتجاه العام للدولة، بحيث تكون في إطار الوحي. أمة تسلم نفسها لله سبحانه، محكمة كتابه، وسنة نبيه([9]).
والأخلاق في الإسلام ترتبط بالمجتمع ارتباطًا وثيقًا، وتمثل القاسم المشترك لكل روافده من سياسة واقتصاد وأدب وعلم وتربية. وقد جمع الإسلام بين السلوك والخلق في مختلف المجالات، وبين الدنيا والآخرة، ومقياسها هو التقوى. التقوى بمعني الاتقاء، والترك للانحراف في الاعتقاد والسلوك والعمل بمعني الحركة والإضافة([10]).
ارتباط الاقتصاد الإسلامي بالأخلاق
الأخلاق الإسلامية لها مجالها وعملها في شئون المال والاقتصاد، سواء في ميدان الإنتاج، أو التداول، أو التوزيع، أو الاستهلاك. فليس للاقتصاد أن ينطلق ـ كما يشاء ـ بلا حدود ولا قيود، دون ارتباط بقيم، ولا تقيد بمثل عليا، كما هي دعوة بعض الاقتصاديين للفصل بين الاقتصاد والأخلاق، وليس للمسلم أن ينتج ما يشاء ولو كان ضار بالناس ماديًا ومعنويًا، وإن كان لا يستطيع أن يحصل هو من وراء هذا الإنتاج أعظم الأرباح، وأكبر المنافع . وكما ورد في الحديث الشريف: “لا ضرر ولا ضرار”([11]).
وليس للمسلم، في ميدان التداول، أن يتخذ بيع الخمر أو الخنزير أو الميتة أو الأصنام تجارة، أو يبيع شيئًا لمن يعلم أنه يستعمله في شر أو فساد أو إضرار بالآخرين. كالذي يبيع عصير العنب أو العنب نفسه ممن يعلم أنه يتخذه خمرًا، أو يبيع السلاح ممن يعلم أنه يقتل به بريئًا، أو يستخدمه في ظلم وعدوان، وفي الحديث: (إن الله عز وجل إذا حرم أكل شئ حرم ثمنه)([12]).
وليس للمسلم أن يحتكر الطعام ونحوه مما يحتاج إليه الناس رغبة في أن يبيعه بأضعاف ثمنه، وفي الحديث الصحيح (لا يحتكر إلا خاطئ)([13])، أي آثم كما قال تعالى: )إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ(([14]).
وليس للتاجر المسلم أن يخفي مساوئ سلعته وعيوبها ، ويبرز محاسنها، على طريقة الدعاية الإعلامية المعاصرة، وهذا غش وخداع يبرئ منه الإسلام ورسوله (ليس منا من غش)([15]).
وفي مجال التوزيع والتملك، لا يجوز للمسلم أن يتملك ثروة من طريق خبيث، ولا يحل له أن يأخذ ما ليس له بحق لا بالعدوان ولا بالحيلة. وكما لا يحل للمسلم الملك بطريق خبيث، لا يحل له تنمية ملكه بطريق خبيث كذلك.
لهذا حرم الله الربا والميسر، وأكل أموال الناس بالباطل، والظلم بكل صوره، والضرر والضرار بكل ألوانه، قال تعالى: )وَأَحَلَّ اللَّهُ البَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا(([16])، )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الخَمْرُ وَالمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)([17])، )وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِل(([18]).
وفي مجال الاستهلاك، لم يدع الإسلام للإنسان حبله على غاربه، ينفق كيف يشاء، ولو آذى نفسه أو أسرته أو أمته. بل قيده بالاعتدال والتوسط فقال تعالى: )وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ البَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَّحْسُوراً(([19])، )وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلاَ تُسْرِفُوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المُسْرِفِينَ(([20])، وحمل على الترف والمترفين، وحرم على ما هو من مظاهر الترف مثل أواني الذهب والفضة، فحرمها على الرجال والنساء جميعًا، كما حرم على الرجال لبس الذهب والحرير.
وبهذا تميز الاقتصاد الإسلامي بهذه الخصيصة العظيمة من خصائصه، أنه اقتصاد أخلاقي([21]).
([1]) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، حديث رقم (2076)، 4/359
([3]) فتح الباري، 9/ 35 حديث رقم (5090)
([6]) دراسات في علم الأخلاق، ص106
([8]) مسند أحمد، 3/135، 154، 210، 251.
([9]) الإسلام والعقل، عبد الحليم محمود، ص138
([10]) قضايا العصر ومشكلات الفكر تحت ضوء الإسلام، أنور الجندي، ص114 – 115
([11]) الموطأ، كتاب الأقضية، ص745
([13]) صحيح مسلم، كتاب المساقاة، باب تحريم الاحتكار في الأقوات، 2/ 1228، حديث رقم (130)