د. جمال نصار – عربي21
من أعظم النعم التي أنعم الله بها على المسلمين، أنه سبحانه وتعالى، فضّل الأيام على بعض، وفضل الناس بعضهم على بعض، وجعل التقوى هي المعيار الأهم في القُرب من الله، (إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) (الحجرات: 13)، فليس الغني الذي يفتقد لفعل الخيرات بقريب من الله، وليس الفقير الذي يمتعض من حاله بمحبوب لدى المولى، عز وجل، ولكن الذي يؤدي حق الله، وحق الناس، هو في الدرجة العليا مهما كان حاله في الدنيا بسيطًا، ولكنه في الآخرة من المقربين، طالما أنه قنع بما قسمه الله له، ولذلك قال النبي الكريم، صلى الله عليه وسلم: (إنّ اللهَ يَبْتَلِي عَبْدَهُ بِما أعطاهُ، فمَن رضيَ بِما قَسَمَ اللهُ عزَّ وجلَّ لهُ بارَكَ اللهُ لهُ فيهِ ووسَّعَهُ، ومَن لمْ يَرْضَ لمْ يُبارِكْ لهُ فيهِ).
لذا وجب على كل مسلم ومسلمة الاهتمام بالقدر الكافي بالتقرب إلى الله في هذا الشهر الكريم بالطاعات، من قراءة القرآن، والصلوات في أوقاتها، والذكر والاستغفار، وقيام الليل، والحرص على السنن الواجبة والمستحبة، لأن الفرض فيه بسبعين فيما سواه، والسنة كالفريضة فيما سواه، ولذلك حثنا النبي الكريم في هذا الشهر على الاستفادة منه، حيث قال: (أتاكم شهرُ رمضانَ شهرٌ مباركٌ فرض اللهُ عليكم صيامَه تُفتَّحُ فيه أبوابُ السَّماءِ وتُغلَّقُ فيه أبوابُ الجحيمِ وتُغلُّ فيه مردةُ الشَّياطينِ للهِ فيه ليلةٌ خيرٌ من ألفِ شهرٍ من حُرم خيرَها فقد حُرم)، ومن ثمَّ عمل الخيرات، وترك المنكرات يعود بالفائدة العظيمة على الإنسان، لعظم الوقت وأهميته، ولأنه تُضاعف فيه الحسنات، وتُمحى فيه السيئات.
ولكن اللافت في سلوكيات وأخلاق بعض المسلمين أنهم ينصرفون عن الاستعداد الحقيقي لشهر القرآن، إلى الاستعداد المزيف، فنجد البعض يبحث عن العروض والتخفيضات في الطعام والشراب، ويرتّب العزومات والولائم، المليئة بكل أنواع الأطعمة ما طاب منها وما لذّ، كأن هذا الشهر خُصص لكثرة الطعام، والملهيات من المسلسلات والأفلام. وهذا الفعل، في يقيني، يدخل في سوء التقدير للأوقات، والغفلة، وعدم استغلالها على الوجه الأمثل، ويُعتبر من الحماقة تضييع هذه الفرصة العظيمة في غير فائدة.
ومن الأخلاق التي يجب أن يتمثّلها كل مسلم ومسلمة في هذا الشهر العظيم، خلق الجود والكرم، فالنبي، صلى الله عليه وسلم، (كانَ أجْوَدَ النّاسِ، وأَجْوَدُ ما يَكونُ في رَمَضانَ، حِينَ يَلْقاهُ جِبْرِيلُ، وكانَ جِبْرِيلُ عليه السلام يَلْقاهُ في كُلِّ لَيْلَةٍ مِن رَمَضانَ، فيُدارِسُهُ القُرْآنَ، فَلَرَسولُ اللهِ، صلى الله عليه وسلم، أجْوَدُ بالخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ المُرْسَلَةِ).
والكرم إن كان بمال فهو جود، وإن كان بكفِّ ضرر مع القدرة فهو عفو، وإن كان ببذل النفس فهو شجاعة، ومن صور الجود والكرم: العطاء من المال، ومِنْ كل ما يمتلك الإنسان من أشياء ينتفع بها، وكل مأكول، أو مشروب، أو ملبوس، أو مركوب، أو مسكون، أو أي شيء مادي يمكن أن يفيد الآخرين.
والعطاء من العلم والمعرفة، وهذا باب واسع، ويمكن للمعلم والأستاذ أن يفيض على طلابه بالعلم والمعرفة، ولا يبخل عليهم، فيبذل علمه الذي جعله الله تعالى وديعة عنده.
وكرم النصيحة، فالإنسان الجواد، كريم النفس، لا يبخل على أخيه الإنسان بأي نصيحة تنفعه في دينه أو دنياه، بل يعطيه نصحه الذي ينفعه مبتغيًا به وجه الله تعالى.
وكرم النفس؛ فالكريم يعطي من جاهه، ويعطي من عطفه وحنانه، ويعطي من حلو كلامه وابتسامته وطلاقة وجهه، ويعطي من وقته وراحته، ويعطي من سمعه وإصغائه، ويعطي من حبه ورحمته، ويعطي من دعائه وشفاعته، وهكذا إلى سائر صور الكرم من النفس.
والكرم والعطاء من طاقات الجسد وقواه، فالكريم يعطي من معونته، ويعطي من خدماته، ويعطي من جهده، ويميط الأذى عن الطريق والمرافق العامة، ويمشي في مصالح الناس، ويتعب في مساعدتهم، ويسهر من أجل معونتهم وخدمتهم، إلى سائر صور العطاء والكرم من الجسد.
هذه الصور من الجود والكرم يتضاعف أجرها في رمضان، وتعود على صاحبها بالخيرات والفتوحات في الدنيا، والمغفرة والمثوبة في الآخرة، فصنائع المعروف تقي مصارع السوء، قال تعالى: (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) (البقرة: 261)، فعلى المسلِم أن يَنظر إلى المحتاجين الذين يقصدونه كما يَنظر إلى أسباب التجارة الرابحة، وليَعلَم أنَّ بذلَ اليوم، وإن كان قليلاً فهو عند الله يوم القيامة أضعاف مضاعفة، لا يردُّه لصاحبه مِثلاً أو مِثليْن، بل يردُّه أضعافًا مضاعَفة.
ومن أخلاق المسلمين أيضًا في شهر الصيام، عدم الغيبة والنميمة، فمن صام في نهار رمضان، ولم يصم لسانه عن غيبة الآخرين، وهتك أعراضهم، ولم تصم يده عن إيذاء الآخرين والنيل منهم، ولم يصم قلبه من الأحقاد والغلِّ على إخوانه المسلمين، فإنَّ صيامه ناقص، وفيه تفريط كبير لحدود الله.
وممَّا يعجب له المطّلع على أحوال بعض الناس، حيث يحفظ هؤلاء حديث الرسول، صلى الله عليه وسلم، (الصلواتُ الخمْسُ، والجُمعةُ إلى الجُمعةِ، ورَمضانُ إلى رمضانَ: مُكَفِّراتٌ لما بينهُنَّ)، ثم يقفون عند هذا الحدِّ، وينسون أو يتناسون تكملة هذا الحديث: (إذا اجْتُنِبتِ الكبائِرُ).
فليدرك الإنسان نفسه، وليجدد توبته لربه، وليبتعد عن منكرات الأخلاق والأقوال والأعمال؛ فإنَّ رسول الهدى، عليه الصلاة والسلام، يقول: (مَن لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ والعَمَلَ به، فليسَ لِلَّهِ حاجَةٌ في أنْ يَدَعَ طَعامَهُ وشَرابَهُ).
وما معنى حقيقة الصيام إن كان المرء يصوم عن الطعام والشراب، ولكنَّه لا يصوم عن السباب، والفحش، والبذاءة باللسان، ولا يصوم عن غض البصر عمَّا حرَّم الله؟!
وكما قال الشاعر:
أهل الخصوص من الصُوّام صومهم *** صون اللسان عن البهتان والكذبِ
والعارفون وأهل الأنس صومهم *** صون القلوب عن الأغيار والحجبِ
تقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال، وكل عام وأنتم بخير.