سياسة الدبلوماسية الضاغطة بين طهران وواشنطن
يرى بايدن أنه يجب تغيير المسار تجاه إيران بشكل عاجل، معتبرًا أن سياسة سلفه ترامب انتهت بالفشل، وجعلت إيران من وجهة نظره أقرب لامتلاك سلاح نووي، وربط أي عودة محتملة إلى الاتفاق النووي، بعودة طهران لكامل التزاماتها. من جهتها، أبدت إيران استعدادها للترحيب بعودة الولايات المتحدة، لكنها شددت على ضرورة اقتران ذلك بتعويض أمريكي عمّا تكبّدته منذ 2018 جراء إخلال واشنطن بالاتفاق. وفي ذات السياق تبحث إدارة بايدن دعم إقراض صندوق النقد الدولي لطهران للتخفيف من جائحة كورونا.
ومن المتوقع أن تتطرق الإدارة الأمريكية الجديدة إلى ملف الأذرع الإيرانية المسلحة في الدول العربية، والدعم السياسي والعسكري والمالي الذي تقدمه طهران لهذه الميليشيات المسلحة التابعة لها، والتي تستخدمها في تهديد أمن الدول الخليجية، وأمن (إسرائيل)، وأيضًا تستخدمها في ضرب المنطقة الخضراء في العراق كما حدث من الحشد الشعبي التابع لها، فالإدارة الأمريكية قد تضغط على إيران بخصوص هذا الأمر في مقابل رفع العقوبات الاقتصادية الأمريكية، والعودة إلى الاتفاق النووي القديم، والسماح لطهران بتصدير النفط، ورفع تجميد الحظر عن الأموال الإيرانية في الخارج، والعمل على عودة الروح للاقتصاد الإيراني المتأثر بشدة من العقوبات الاقتصادية التي فُرضت بشكل مستمر من الإدارة الامريكية في عهد الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب.
والملاحظ أن الفترة الحالية تشهد تجاذبات في الملف الإيراني بين واشنطن وطهران والاتحاد الأوروبي، وتحرص إيران على استخدام أوراق عديدة، وتتّبع سياسة الدبلوماسية الضاغطة لإجبار أمريكا لرفع العقوبات بدون شروط، وأتوقع أن تؤول الأمور إلى رضوخ واشنطن للعديد من مطالب طهران.
موقف إدارة بايدن من تركيا
العلاقات الأمريكية التركية تتميز بالكثير من التعقيدات والتشابك التي تتحكم في مسارها مجموعة مختلفة من العوامل التي ساهمت في تقارب أو تباعد علاقاتهما، وقد شهدت واشنطن وأنقرة مجموعة من الخلافات خلال إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، ولكن بعد فوز المرشح الديمقراطي جوزيف بايدن فإن هذا المتغير يمثل أهمية كبيرة في التأثير على مسار علاقاتهما.
وثمة توقعات بأن إدارة بايدن ستتخذ موقفًا حاسمًا من شراء تركيا لنظام الصواريخ الروسية الصنع من طراز إس 400، علمًا بأن إدارة ترامب كانت قد اتجهت إلى فرض عقوبات عليها بسبب هذه القضية.
وقد أدانت تركيا العقوبات الأحادية التي فرضتها الإدارة الأمريكية عليها بسبب صفقة منظومة السلاح الروسي معتبره الخطوة غير عقلانية، وأنها ستؤثر على العلاقات الثنائية بين البلدين.
وستحاول واشنطن بشتى الطرق تحجيم علاقات تركيا مع غيرها من الدول، وخصوصًا، مع موسكو ليس عداءً لموسكو ولكن ضد تركيا، التي استطاعت بشتى الطرق سحب يدها من تحت الإدارة الأمريكية المهيمنة.
وتصريحات الرئيس الأمريكي بايدن تشير إلى اتخاذ الإدارة الجديدة مواقف صارمة من الإدارة التركية، وهذا من شأنه سيتعلق بقضايا مثل الوجود التركي العسكري في ليبيا حيث ساند ترامب هذا الوجود، وسمح للإدارة التركية بنقل واستخدام الأسلحة الأمريكية فيه، بينما بايدن سيكون له مواقف مختلفة عمّا فعله ترامب مع أردوغان فيما يخص الشأن الليبي حيث قد تلجأ الإدارة الأمريكية إلى الضغط على تركيا لتقليل الوجود والتدخل العسكري التركي في لبيبا، وليس الخروج الكلي من ليبيا نظرًا لوجود المنافس الأبدي الروسي في ليبيا.
ومع ذلك لا بد من العلم أن تركيا اليوم لم تعد ذاك البلد الذي يتأثر بسياسات القادم الجديد إلى البيت الأبيض، وتتوقع حدوث انفراجة في العلاقات التركية الأمريكية، على خلفية دعوة الرئيس أردوغان بايدن إلى فتح قنوات الدبلوماسية والمصالحة في المنطقة، وتطبيع العلاقات مع الغرب، وذلك في ظل تطورات ميزان القوى في العالم، وسياسات الإدارة الأمريكية الجديدة التي ستتبعها في منطقة الشرق الأوسط، حيث يتوقع أن يتحرّك بايدن من أجل تمكين حلف شمالي الأطلسي (الناتو) في مواجهة روسيا. لذلك تطالب هذه الأوساط بالاعتراف بالدور التركي النشيط في الملفات الإقليمية والدولية، واعتماد نهج واقعي، بما ينعكس إيجابًا على مستقبل العلاقات الثنائية بين تركيا والولايات المتحدة المثقلة بالأعباء منذ سنوات عديدة.
وقد أكّد على ذلك الرئيس التركي أردوغان في تصريح له السبت (20-2-2021)، بقوله: إن المصالح المشتركة بين تركيا والولايات المتحدة الأمريكية تفوق الخلافات، وإن بلاده ترغب في تعزيز التعاون أكثر مع الإدارة الأمريكية الجديدة على أساس “رابح رابح”، وبمنظور طويل الأمد.
الموقف من مأساة سوريا والأزمة العراقية
تلوح ثمة مؤشرات على أن إدارة الرئيس جو بايدن، ستتجه لتبني استراتيجية مختلفة عن إدارة سابقه دونالد ترامب، حيث ستعمل على استعادة الدور الأمريكي في سوريا، بعد تراجعه بشكل كبير خلال المرحلة السابقة، لصالح روسيا.
وتدرك إدارة بايدن أن استمرار سوريا كدولة فاشلة، سوف يترتب عليه تداعيات خطيرة، في مقدمتها استمرار معاناة الشعب السوري، وتدفق موجات جديدة من اللاجئين إلى الدول المجاورة، وتوفير أرضية خصبة للمنظمات الإرهابية المتطرفة، واحتمال عودة الاشتباكات المسلحة بين أطراف النزاع، مما قد ينعكس سلبيًا على استقرار دول الجوار.
ويبقى الاختبار الأهم لسياسات الرئيس جو بايدن وإدارته في سوريا، في مدى تعاطيه مع قرار مجلس الأمن 2254، الذي تم التصويت عليه في 18 ديسمبر/كانون الأول 2015، ونص على بدء محادثات السلام بسوريا في يناير/كانون الثاني 2016، وأكد أن الشعب السوري هو من يقرر مستقبل البلاد، ودعا لتشكيل حكومة انتقالية، وإجراء انتخابات برعاية أممية، ووقف أي هجمات ضد المدنيين بشكل فوري. وأكثر ما يشغل بايدن في أزمة سوريا هو تقليص النفوذ التركي قبل كل شيء.
وتركِّز الإدارة الأمريكية الجديدة في العراق على حقوق الإنسان، ودعم التغيير السياسي السلمي، خاصة إذا كانت مطالب المحتجين تتمثل بمكافحة الفساد، وإجراء انتخابات نزيهة وتقليل نفوذ إيران، ويمكن أن يكون لأمريكا حلول عملية بالتأكيد على الحفاظ على حقوق الإنسان، ولكن بالنسبة للمشهد السياسي الحالي في العراق، الولايات المتحدة تدعم رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي، وهذا يعطي رسالة للعراقيين والإيرانيين بأن دعم المحتجين المناوئين لسلطته حتى إجراء الانتخابات.
وفي الغالب لن تنسحب القوات الأمريكية بشكل كامل من العراق، فواشنطن عضو في التحالف الدولي الذي لا يزال يعمل في البلاد، والأوضاع في العراق، والمنطقة باتت أشد تعقيدًا مما كانت عليه قبل سنوات، وهناك أخطارًا جمّة محدقة بالبلاد، خاصة تدخل دول الجوار، واستمرار خطر تنظيم الدولة “داعش” الذي عاد لينفذ الكثير من الهجمات، فضلًا عن أن العراق لا يزال بحاجة للدعم الأمريكي الاستخباراتي والجوي.
بايدن والمسألة المصرية
مصر تعدّ أكبر دولة عربية، محورية لمستقبل المنطقة، إذا نجحت، سيبدو الشرق الأوسط أقل تخلّفًا، وإذا أخفقت فإن تشوّهات اليوم ستغدو أكثر قبحًا، وقد أثبت السيسي، الذي استولى على السلطة في انقلاب عام 2013، أنّه أكثر قمعيةً من حسني مبارك الذي أُطيح به في ثورة يناير 2011.
والملاحظ أنه على مدى الأعوام الأربعة الماضية، لرئاسة ترامب، رحّب عبد الفتاح السيسي بالوضع القائم الذي يركِّز فيه البيت الأبيض على محاربة التطرف، وتعزيز التعاون الأمني الإقليمي، من دون قيام الأخير بالحديث عن حقوق الإنسان والديمقراطية. غير أن احتمالية قيام إدارة بايدن بإعادة صياغة أولويات السياسة هذه تثير قلق القاهرة بشأن اللهجة المستقبلية، والمضمون المستقبلي للعلاقة الثنائية بين البلدين.
ومن أبرز دواعي القلق المصري ما صرّح به بايدن على تويتر أثناء ترشحه للرئاسة، بقوله: “لا مزيد من الشيكات على بياض لـ الديكتاتور المفضّل لدى ترامب”، بعد اعتقال أقارب الناشط الحقوقي محمد صلاح سلطان، الذي اعتقله السيسي في فترة سابقة، ويحمل الجنسية الأمريكية.
وهذا القلق ينبع من عدة عوامل رئيسة، منها: أن بايدن ربما يتبع نهج أوباما، الذي يرى عدم قمع الإسلاميين بهذا الشكل المبالغ فيه، وكذلك مسألة انعدام حقوق الإنسان وغياب الانفتاح السياسي، لذلك يرى المسؤولون في القاهرة فرصة ضئيلة لإقناع بايدن بتجنب مواجهتهم علانية في مثل هذه الأمور. كما أن كابوس الحكومة الأسوأ هو احتمال قيام واشنطن بالضغط عليها لتخفيف الإجراءات القمعية ضد السجناء من السياسيين الليبراليين وغيرهم.
وفيما يتعلق بإسرائيل، سيواصل المسؤولون المصريون النظر إلى علاقات العمل الجيدة مع تل أبيب على أنها بوابتهم إلى أوساط السياسات في واشنطن، وهو المنفذ الذي قد يساعدهم على التخفيف من بعض مشاكلهم المحتملة في الكونجرس بشأن حقوق الإنسان وغيرها من القضايا، ولعل زيارة وزير الطاقة المصري (طارق الملا) الأخيرة لإسرائيل بتاريخ (21-2-2021)، خير دليل على ذلك.
وستستفيد إدارة بايدن من التمسك بأهداف متواضعة عند التعامل مع مصر، كضمان الإفراج عن جميع السجناء الأمريكيين والمباشرة بالإصلاحات الاقتصادية اللازمة لتجنب كارثة مجتمعية على المائة مليون مواطن في البلاد.
والخلاصة: أن الأيام القادمة ستكون حبلى بالتغيرات في السياسة الأمريكية تجاه الشرق الأوسط، بالمقارنة بما قام به ترامب، والمرجّح أن واشنطن ستقدم مصالحها على كل شيء، وسيستمر دعمها لإسرائيل، وستحافظ على مصالحها في منطقة الخليج، ولن تسمح لإيران بتطوير برنامجها النووي، وستحاول بشكل ملموس دعم حقوق الإنسان في المنطقة بما لا يتعارض مع أولوياتها، ومصالحها في منطقة الشرق الأوسط.