إذا تأملنا الهدف الأساس من وجود البشر على الأرض، نجد أنه بشكل مباشر، هو التعمير في الأرض، ونشر الخير والعدل فيما بينهم، وامتثال الأخلاق الحميدة والحسنة في سائر المعاملات، وما سوى ذلك يعتبر شاذاً وخارجاً عن المألوف، والهدف الذي خلق الله من أجله الناس هو عبادته بالمفهوم الشامل، كما قال تعالى: (وَمَا خَلَقۡتُ ٱلۡجِنَّ وَٱلۡإِنسَ إِلَّا لِیَعۡبُدُونِ).
والأخلاق هي سر بقاء الأمم، ولا بقاء لأمة تفرط في أخلاقها وتتهاون في قيمها ومبادئها الروحية، وصدق الشاعر أحمد شوقي حينما قال:
إنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا
ولكي يتبين لنا مدى ضرورة الأخلاق لدوام الحياة الاجتماعية، وتقدمها من الناحيتين المادية والروحية فعلينا أن نتصور حياة مجتمع أُهمِلت فيه الأخلاق الفاضلة، وسادت بين أفراده الخيانة والفسق والكذب والغش والسرقة وسفك الدماء، والتعدي على الحرمات والحقوق، كيف يمكن أن تكون هذه الحياة؟ لا شك في أن هذه الحياة تكون جحيماً لا يطاق، ويتحول الناس إلى وحوش ضارية بعد أن تخلوا عن كل المعاني الإنسانية، ويشقون شقاء ما بعده شقاء، لأن الإنسان سيكون في هذا المجتمع أداة هدم وتدمير، سيكون وحشاً ضارياً لا يهمه إلا تحقيق أطماعه، وإشباع غرائزه ونزعاته؛ نزعات التسلط والتجبر والأنانية والانتقام والكبر والطغيان، وإذا استخدم هذه القوى في الفساد أهلك الحرث والنسل، وصدق الله العظيم إذ يقول: (وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ).
وهكذا فإن الأخلاق ضرورة فردية وضرورة اجتماعية فهي ملاك الفرد الفاضل، وقوام المجتمع الراقي، يبقى ويستقر ما بقيت، ويذهب ويتلاشى إن ذهبت، بل لا حياة له بغيرها.
وسوف تظل الأخلاق حاجة أساسية للإنسان وبدونها يصبح الإنسان ذئباً لأخيه الإنسان مما لا يتيسر معه إقامة حياة اجتماعية سليمة، وترجع هذه الحاجة إلى أن غرائز الإنسان متعددة ومتنوعة، معقدة غير سهلة، مركبة غير بسيطة، فمنها الفردي الذي يدفع إلى الأثرة والأنانية والبخل، ومنها الاجتماعي الذي يدعو إلى التعاون والإيثار والكرم، ومنها ما يهبط إلى حضيض المادة، ومنها ما يسمو به إلى أفق الروح؛ ذلك أن الإنسان نفسه مخلوق مركب، في كيانه جزء أرضي وجزء سماوي، هو جسد وروح، شهوة وعقل، وإنسان وحيوان، وملاك وشيطان.
وإذا كان الإنسان في حاجة إلى الأخلاق، فإن المجتمع لا يقل عنه في حاجته إليها، فكما أن الفرد يضيره ويفسده أن يكون كاذباً مرائياً حسوداً خائناً ماكراً ظالماً، كذلك يفسد المجتمع بشيوع هذه الصفات في أفراده، فالأخلاق هي الدعامة الأولى في بناء كل مجتمع سليم، وهي ضرورة إنسانية لازمة لحياة المجتمع لأنها توضح أساليب التعامل الاجتماعي مثل العدالة، والمساواة، والتعاون، والإخلاص، والصدق، والوفاء، والعفة، ولعلنا لا نكون مبالغين إذا قلنا إن الأخلاق ألزم للإنسانية من العلم، فلا توجد أمة سعيدة مترابطة بدون الأخلاق مهما بلغت من التقدم العلمي، وها هي الحضارة الغربية ركزت على العلم وأهملت الأخلاق والقيم، ولذلك فإن أبناءها يعانون كثيراً من الأمراض النفسية والعصبية، والإحصائيات تشير إلى ارتفاع معدلات الانتحار وخاصة بين الشباب.
فمكارم الأخلاق ضرورة اجتماعية لا يستغني عنها مجتمع من المجتمعات، ومتى فقدت الأخلاق التي هي الوسيط الذي لابد منه لانسجام الإنسان مع أخيه الإنسان، تفكك أفراد المجتمع، وتصارعوا، وتناهبوا مصالحهم، ثم أدى بهم ذلك إلى الانهيار ثم الدمار.
فإذا كانت الأخلاق ضرورة في نظر المذاهب والفلسفات الأخرى فهي في نظر الإسلام أكثر ضرورة وأهمية، ولهذا فقد جعلها مناط الثواب والعقاب في الدنيا والآخرة، فهو يعاقب الناس بالهلاك في الدنيا لفساد أخلاقهم، قال تعالى: (وَلَقَدۡ أَهۡلَكۡنَا ٱلۡقُرُونَ مِن قَبۡلِكُمۡ لَمَّا ظَلَمُوا)(3)، وقال تعالى: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِیُهۡلِكَ ٱلۡقُرَىٰ بِظُلۡم وَأَهۡلُهَا مُصۡلِحُونَ)(4)، بل إن الإسلام يخضع الأعمال العلمية للمبادئ الأخلاقية، سواء كان ذلك في مجال البحث، أو في مجال النشر لتوصيله للناس.
ولقد اهتم الإسلام بالأخلاق لأنها أمر لابد منه لدوام الحياة الاجتماعية وتقدمها من الناحيتين المادية والمعنوية، فالإنسان، بحاجة ماسة إلى نظام خلقي يحقق حاجته الاجتماعية، ويحول دون ميوله ونزعاته الشريرة ويوجهه إلى استخدام قواه في مجالات يعود نفعها عليه وعلى غيره.
إن الإسلام يدرك تمام الإدراك ماذا يحدث لو أهملت المبادئ الأخلاقية في المجتمع، وساد فيه الخيانة والغش، والكذب والسرقة، وسفك الدماء، والتعدي على الحرمات والحقوق بكل أنواعها، وتلاشت المعاني الإنسانية في علاقات الناس، فلا محبة ولا مودة، ولا نزاهة ولا تعاون، ولا تراحم ولا إخلاص.
إنه بلا شك سيكون المجتمع جحيماً لا يطاق، ولا يمكن للحياة أن تدوم فيه، لأن الإنسان بطبعه محتاج إلى الغير، وبطبعه ينزع إلى التسلط والتجبر والأنانية والانتقام.
الأخلاق والفطرة
الناس بفطرتهم يميلون إلى النماذج والصفات الخلقية الخيرة، ويشعرون بالراحة التامة عند ممارسة مثل هذه الأدوار التي توصف بالعدل والحق والجمال، كما ينفرون بفطرتهم، من الاتجاهات الخلقية الشاذة، ويتذمرون من النماذج الخلقية المنحرفة، إذ يشعرون بغرابتها على فطرتهم، ومناقضة تلك النماذج لها، “فالنفس الإنسانية منذ تكوينها وتسويتها ألهمت في فطرتها إدراك طريق فجورها وطريق تقواها، وهذا هو الحس الفطري الذي تدرك به الخير والشر، ولذلك كان على الإنسان أن يزكي نفسه ويطهرها من الإثم حتى يظفر بالفلاح وإلا خاب سعيه”، قال تعالى: (فَأَلۡهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقۡوَىٰهَا).
وقد دلت أحاديث كثيرة على أن من الأخلاق ما هو فطري، يتفاضل به الناس في أصل تكوينهم الفطري، ومن ذلك: ما روي عن أبي هريرة عن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: (الناس معادن كمعادن الذهب والفضة، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا، والأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف)، وهذا الحديث دليل على فروق الهبات الفطرية الخلقية، وفيه يثبت الرسول، صلى الله عليه وسلم، أن خيار الناس في التكوين الفطري هم أكرمهم خلقاً، وهذا التكوين الخلقي يرافق الإنسان ويصاحبه على جميع أحواله.
وروي عن حذيفة بن اليمان قال: حدثنا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقال: (إن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال، ثم علموا من القرآن، ثم علموا من السنة)، في هذا الحديث بيان عن الأمانة في الناس وعما تصير إليه فيهم، فقد أبان الرسول، صلى الله عليه وسلم، حقيقة من حقائق التكوين الخلقي الفطري في الناس، وهذه الحقيقة تثبت أن الأصل في الناس أن يكونوا أمناء.
وقوله، صلى الله عليه وسلم، للأشجع العصري: (إن فيك لخصلتين يحبهما الله ورسوله، قال ما هما؟ قال: (الحلم والأناة)، قال: شيء جُبلت عليه أو شيء أتخلقه؟ قال: (لا بل جبلت عليه) قال: الحمد لله.
ومن ثمّ نستطيع القول بأنَّ الأخلاق من صميم الطبيعة الإنسانيَّة، وقد وُجِدَت عند كلِّ البشر ابتداءً، ثُمَّ إنَّ جوهرها واحدٌ مهما اختلفت العادات والبيئات.