الإساءة للإسلام ولنبي الإسلام سيدنا محمد، صلى الله عليه وسلم، ليست وليدة اللحظة، بل سبقتها حملات من قبل في أوروبا، وخصوصًا في الدنمارك. ففي العام 2005 أقدمت صحيفة “يولاندس بوستن” الدنماركية، على نشر 12 صورة كاريكاتورية، مسيئة للنبي، صلى الله عليه وسلم، تبعتها عدة صحف أوروبية في النرويج وألمانيا وفرنسا، وهو ما أثار موجة غضب عارمة في العالم الإسلامي، ووقعت مظاهرات كبيرة، وحملات مقاطعة واسعة للكثير من البضائع الأوروبية.
وبعد عام من بدء نشر الرسوم المسيئة، قامت صحيفة “شارلي إيبدو” في 2006، بإعادة نشر الرسوم المسيئة بعمامة على شكل قنبلة، وصورة أخرى لرجل يحمل سكينًا وبجانبه امرأتان منقبتان. وهو ما أعاد تفجير الغضب مرة أخرى رفضًا لما قامت به الصحيفة.
ماكرون وعنصريته البغيضة
في بداية شهر سبتمبر/أيلول 2020 أعلنت صحيفة “شارلي إيبدو” أنها ستعيد نشر الرسوم الكاريكاتورية المسيئة للرسول الكريم، صلى الله عليه وسلم، مجددًا، وأعلن الرئيس الفرنسي “إيمانويل ماكرون”، أنه متضامن معهم، ورفض الانتقادات الموجهة إلى الصحيفة، بحجة حرية التعبير، ولكسب التيار اليميني المتطرف في الانتخابات الرئاسية القادمة.
ولم يتوقف الأمر عند حد الصحيفة، إذ عمدت الكثير من المؤسسات والمباني في فرنسا، إلى إعادة تعليق الرسوم المسيئة على واجهاتها، في خطوة استفزازية للجالية المسلمة بالبلاد، وعموم المسلمين في العالم.
وفي نفس السياق، قام مدرس فرنسي يدعى “صموئل باتي”، بعرض الرسومات المسيئة داخل مدرسته أمام الطلاب، خلال درس عن حرية التعبير، ويقوم شاب من أصول شيشانية، يبلغ من العمر 18 عامًا، على قتل المدرس وقطع رأسه، ردًا على ما قام به المدرس، وقامت الشرطة بملاحقته وقتله.
وعلى وقع الإصرار الفرنسي على عدم التراجع عن نشر الرسومات، أطلق “ماكرون” حملة أمنية ضد مسلمي فرنسا، وعشرات الجمعيات التابعة لهم، وخاصة جمعيات تناهض “الإسلاموفوبيا”، فضلا عن تصريحات حكومته تتهم الجالية المسلمة بالتطرف.
وردًا على الحملة الفرنسية، وتعمّد نشر الرسوم المسيئة، انطلقت حملة مقاطعة البضائع الفرنسية في العالم الإسلامي، وخصوصًا في الكويت وقطر، وتركيا، وباكستان، وإندونيسيا، وتصدّر وسم يدعو للمقاطعة #قاطعوا_منتجات_فرنسا، قائمة الأعلى تداولًا، وخصوصًا بعد دعوة الرئيس التركي لتفعيل المقاطعة الاقتصادية ضد فرنسا، متهمًا ماكرون بأنه “بحاجة إلى الكشف عن قواه العقلية، بعد مهاجمته دين أحد مكونات بلاده”.
وعلى وقع حملة المقاطعة الاقتصادية، للبضائع الفرنسية، خرج “ماكرون” بتغريدة باللغة العربية، عبر حسابه في تويتر، وقال: “لا شيء يجعلنا نتراجع، أبدًا.. نحترم كل أوجه الاختلاف بروح السلام، لا نقبل أبدًا خطاب الحقد، وندافع عن النقاش العقلاني، سنقف دومًا إلى جانب كرامة الإنسان والقيم العالمية”.
كما أصدرت الخارجية الفرنسية بيانًا، وصفت فيه دعوات المقاطعة بـ”العبثية”، وقالت: “يجب أن تتوقف فورا” متهمة ما قالت إنها “أقلية راديكالية بالوقوف وراءها”.
وهكذا ظهرت عنصرية “ماكرون” البغيضة ضد الإسلام والمسلمين، بدعاوى حرية التعبير، التي لا تحترم المقدسات الدينية، على الرغم من ظهوره في قناة الجزيرة بتاريخ (31-10-2020)، محاولًا المراوغة، والظهور بمظهر المدافع عن حرية التعبير، وفي ذات السياق لم يحرك ساكنًا للاعتداء على محجبتين عند برج إيفل، ويغلق العديد من المساجد، والعشرات من المؤسسات الإسلامية في فرنسا. فأين إذن حرية التعبير!
ولن تنسى الأجيال العربية والإسلامية ما فعلته فرنسا الاستعمارية في معظم الدول الأفريقية، وكذا من الإبادة الجماعية في الجزائر، وغيرها. فالتاريخ خير شاهد على عنصرية “فرنسا”، التي يريد “ماكرون” تجميل صورتها، والظهور بمظهر المدافع عن مبادئ الجمهورية الفرنسية وديمقراطيتها!
الإمارات وفرنسا في مواجهة المسلمين
بعد حملة المقاطعة للبضائع الفرنسية أعلن “محمد بن زايد” أن هذه الحملة وراءها جماعة الإخوان المسلمين العالمية، والرئيس التركي “رجب طيب أردوغان”، معلنًا دعمه للرئيس ماكرون وفرنسا، وهذا الدعم برز بصورة واضحة عبر كتّاب وإعلاميين، ومغردين إماراتيين معروفين بقربهم من دوائر صنع القرار في الإمارات، حاولوا نقل الأزمة من فرنسا إلى تركيا، وتبنّت الإمارات والسعودية حملة لمقاطعة البضائع التركية!
والحقيقة أن الإمارات تبحث في كل مكان لحرب الإسلاميين، وقد سبق لمحمد بن زايد توجيه تحذير لأوروبا في وقت سابق، يحذرهم فيها من انتشار الإسلام، ويحثهم على الوقوف ضد هذا الانتشار. فعلى سبيل المثال قال: “زيغمار غابرييل” وزير الخارجية الألماني السابق، إن ولي عهد إمارة أبو ظبي “محمد بن زايد” طلب منه عدم التغافل عن الشباب المسلم في المساجد الألمانية، ونصح بتشديد الرقابة عليهم، في الوقت الذي يدعو فيه بن زايد للتسامح بين الأديان والتآخي بينها حتى بدا التساؤل عن الذين يتسامحون مع كل الأديان إلا مع أبناء دينهم في إشارة لولي عهد أبوظبي بعد استقباله الحميم لـ “البابا”.
وتشترك الإمارات مع فرنسا في العديد من التوجهات في منطقة الشرق الأوسط، وخصوصًا بعد دعم الثورة المضادة ضد إرادة الشعوب في المنطقة، وساهمت مع فرنسا في العديد من الملفات سواء في سوريا، أو ليبيا، أو تركيا.
وقامت الإمارات بدعم وتمويل اللواء المتقاعد خليفة حفتر، وقدّمت له شحنات أسلحة نقلت عبر طائرات فرنسية، وكشفت حكومة الوفاق الليبية، قبل نحو عامين، عن وجود ضبّاط استخبارات فرنسيين، بالتوازي مع إقامة الإماراتيين معسكرًا لعسكرييها في شرق ليبيا، يحتوي على طائرات صينية مسيرة، نفذت العديد من المهام ضد أهداف تتبع حكومة الوفاق المعترف بها دوليًا.
وتساهم الإمارات وفرنسا في الأزمة المتواصلة مع تركيا منذ سنوات، فمن جانب تحارب الإمارات التيار الإسلامي في العالم العربي، وتراه تهديدًا وجوديًا، وفقًا للعديد من التسريبات على ألسنة مسؤولين إماراتيين، وأبرزهم ولي عهد أبو ظبي “محمد بن زايد”، بحسب “ويكليكس”، والأمر الآخر تحارب فرنسا الصعود التركي في المنطقة، وتحركاتها في مناطق المتوسط، وتمارس ضغوطًا من جانب حلف الناتو، والاتحاد الأوروبي.
وشهدت العلاقات الإماراتية والفرنسية من جهة، والتركية من جهة أخرى، واحدة من أكبر الأزمات بسبب دعم الجانب الأول لليونان في أزمة شرق المتوسط، ومسألة الترسيم البحري للمناطق الاقتصادية، كما تُتهم الإمارات بتقديم دعم للوحدات الكردية، التي تعتبرها أنقرة منظمات إرهابية، تتبع تنظيم حزب العمال الكردستاني المصنّف إرهابيًا، ناهيكم عن ضلوع الإمارات في دعم الانقلاب الفاشل في تركيا يوليو/تموز 2016.
رد بعض المستشرقين على المستهزئين بخير البرية
على الرغم من عنصرية بعض الغربيين ضد الإسلام والمسلمين، ومشاركة بعض الأنظمة العربية لهم في الحرب غير المبررة على كل ما هو إسلامي؛ إلا أن هناك العديد من المستشرقين المنصفين الذين أنصفوا النبي، صلى الله عليه وسلم، وأكدوا على دوره في إنقاذ البشرية.
قال المستشرق الفرنسي “جوستاف لوبون”: “إذا ما قيست قيمة الرجال بجليل أعمالهم؛ كان محمد من أعظم من عرفهم التاريخ، وقد أخذ علماء الغرب ينصفون محمدًا، مع أن التعصب الديني أعمى بصائر مؤرخين كثيرين عن الاعتراف بفضله”.
والمستشرق الأمريكي “واشنجتون إيرفنج”: “كانت تصرفات الرسول، صلى الله عليه وسلم، في أعقاب فتح مكة تدل على أنه نبي مرسل لا على أنه قائد مظفر؛ فقد أبدى رحمة وشفقة على مواطنيه برغم أنه أصبح في مركز قوي، ولكنه توّج نجاحه وانتصاره بالرحمة والعفو”.
والباحث الفرنسي وأستاذ في السربون “إدوار بروي” قال: “جاء محمد بن عبد الله، النبي العربي وخاتم النبيين، يبشر العرب والناس أجمعين بدين جديد، ويدعو للقول بالله الواحد الأحد، وكانت الشريعة [في دعوته] لا تختلف عن العقيدة أو الإيمان، وتتمتع مثلها بسلطة إلهية ملزمة، تضبط ليس الأمور الدينية فحسب، بل أيضًا الأمور الدنيوية، فتفرض على المسلم الزكاة، والجهاد ضد المشركين، ونشر الدين الحنيف.. وعندما قبض النبي العربي، عام 632م، كان قد انتهى من دعوته، كما انتهى من وضع نظام اجتماعي يسمو كثيرًا فوق النظام القبلي الذي كان عليه العرب قبل الإسلام، وصهرهم في وحدة قوية، وهكذا تمّ للجزيرة العربية وحدة دينية متماسكة، لم تعرف مثلها من قبل”.
وقال “سيروليام موير” في كتابه “سيرة محمد” صلى الله عليه وسلم: “امتاز محمد بوضوح كلامه، ويُسر دينه، وأنه أتمَّ من الأعمال ما يُدهش الألباب، فلم يشهد التاريخ مُصلِحًا أيقظ النفوس، وأحيا الأخلاق، ورفع شأن الفضيلة في زمن قصير كما فعل محمد”.
و”توماس كارليل” الفيلسوف الإنجليزي في كتابه (الأبطال): “قوم يضربون في الصحراء عدة قرون لا يؤبَه لهم، فلما جاءهم النبي العربي أصبحوا قبلةَ الأنظار في العلوم والعرفان، وكثروا بعد قلة، وعزُّوا بعد ذلة، ولم يمضِ قرنٌ حتى استضاءت أطراف الأرض بعقولهم وعلومهم”.
وختامًا أقول: لا بد من استمرار المقاطعة الاقتصادية لفرنسا، ولكل من يُسئ للإسلام ولنبي الإسلام، وهذا أضعف الإيمان، والمساهمة بكل الوسائل المتاحة في نشر الصورة الناصعة لدعوة النبي الكريم، صلى الله عليه وسلم، وأنها جاءت لإنقاذ البشرية وإخراجها من الظلمات إلى النور.
وليعلمن الله الذين آمنوا وليعلمن المنافقين (العنكبوت: 11)