د. جمال نصار – عربي21
حادثة حرق المصحف الشريف أمام السفارة التركية في السويد، من بعض النكرات، يوم السبت (21 – 1 – 2023) أمر في غاية البشاعة والاستهزاء بالدين الإسلامي وأهله، بحجة حرية التعبير. وللأسف أصبح المسلمون اليوم كالأيتام على موائد اللئام، الكل يسخر منهم، الكل يتجرأ عليهم، وديارهم مستباحة، ودماؤهم مباحة، وثرواتهم منهوبة، وإرادتهم مسلوبة.
وهذا التصرف لم يكن الأول من نوعه، ولن يكون الأخير، لأننا أهملنا مقدساتنا في داخلنا قبل أن يستهزئ بها الآخرون، ولم نتحرك بالشكل المطلوب لردع هؤلاء عن هذه الأفعال المُنكرة، والتي أدانتها الأمم المتحدة، حيث رفضت مبدأ تشويه الأديان وطالبت في جلستها العامة المنعقدة في 11/11/2004م بمناهضة تشويه الأديان، ودعت إلى الحوار بين الأديان بدلاً من الإساءة إليها. وللأسف قرارات الأمم المتحدة لا تطبّق إلا على الدول الضعيفة.
فمن حين لآخر نجد البعض في الغرب، سواء كانوا أفرادًا عاديين، أو صحفيين، أو مجلات، أو رؤساء دول وحكومات يقْدِمون على مثل هذه الأفعال الشنيعة التي يحاولون من خلالها التقليل من شأن الإسلام ونبيه الكريم، ومقدساته العظيمة. وقد سبق بعض المستشرقين، قديمًا، هؤلاء في تشويه التراث الإسلامي، ووصف النبي الأعظم بأوصاف مهينة، للتقليل من شأنه، وتشويه صورته ورسالته.
والسؤال هنا؛ ماذا لو كان الفعل من قِبل المسلمين، أو حتى الملحدين، الذين ينكرون الأديان كلها، وقام بعضهم بالاستهزاء بالإنجيل أو التوراة بهذا الشكل المهين؟! لقامت الدنيا ولم تقعد إلا بعد الإدانة الكاملة من كل الدول والمنظمات والهيئات الدولية استنكارًا لهذا الفعل، ويُتهم من يقوم بهذا الفعل بمعاداة السامية، والإرهاب، وغير ذلك من الاتهامات المُعلّبة.
والمسألة الأخرى التي تساعد هؤلاء النكرات على القيام بمثل هذه الأفعال، هي حالة الضعف والاستكانة والتبعية من الأنظمة العربية والإسلامية، للنموذج الغربي، إلا من رحم، وللأسف لم نسمع دول كبيرة عربية وإسلامية تستنكر هذا الإجرام في حق المقدسات الإسلامية، أو تتحرك بسحب السفير للاحتجاج الدبلوماسي على أقل تقدير.
والموقف الوحيد الواضح كان من تركيا فقط بتصريحات من الرئيس أردوغان، ووزارة خارجيته، وتحرُك من الشعب التركي لاستنكار هذا الفعل المشين.
أقول: لو كان هناك بقية من حُمرة الخجل، والحرص على الدين وشعائره ومقدساته، لقام هؤلاء بقطع العلاقات وسحب السفراء، والتحذير والتنديد، والدعوة إلى معاقبة من قام بمثل هذا الفعل الأرعن. ولكن في الغالب نرى جعجعة ولا نرى طحينًا، وبيانات وتصريحات باهتة.
وبقدر استهانة الأنظمة العربية والإسلامية، ومحاربة بعضها للدين الإسلامي وللتدين، بقدر ما نجد استهانة الآخرين بمقدساتنا، وتشويهها، بل يتعدى الأمر إلى السطو عليها، كما هو حادث للأقصى الشريف أولى القبلتين وثالث الحرمين، فنجد أن الكيان الصهيوني يُعربد في فلسطين، ويدنس المقدسات، ويقتل الأبرياء، والعالم كله ينظر ويرى دونما أن يحرك ساكنًا، بل نجد أنظمة دولية تدعم وتساند، وأنظمة عربية تُطبِّع، وتقف مع العدو الإسرائيلي على حساب فلسطين وأهلها. ولله الأمر من قبل ومن بعد.
إن التهاون في رد الفعل، ولو كان العمل ظاهره بسيط، وعدم استنكاره، والتعامل معه بالشكل اللائق، سيقود حتمًا إلى التهاون فيما هو أكبر منه بكثير، والشواهد واضحة أمام أعيننا، حيث ضاعت دول، وانتهكت حُرمات ومقدسات، واستهزئ برسولنا وديننا. وعليه فسيكون القادم أسوأ إن لم يتحرك كل منا وبقوة، ورد فعل يتناسب مع هذا الحدث الجلل.
ولا يمكن أن نعول على الآخرين في استرداد حقوقنا، والحفاظ على مقدساتنا، لأن الغرب يتعامل بازدواجية مقيتة، فإذا قام إنسان بحرق علم (إسرائيل) مثلًا فهو يعادي السامية، وإذا حرق آخر علم الشواذ فهو يعاني من رهاب المثلية، ولكن إذا حرق أرعن جاهل القرآن الكريم فهو يعبّر عن رأيه!
وفي المقابل يظن هؤلاء المعربدون، بدعوى حرية التعبير، أنهم بحرق المصحف الشريف سوف يزيلون أثره لدى المسلمين، ولا يعلم هؤلاء الجهلاء أن كتاب الله محفور في الصدور قبل أن يكون في السطور، وأنه بالنسبة للمسلمين الجادين منهاج حياة، وسبيل للنجاة.
ولا يعلم هؤلاء بجهلهم أن الله، عز وجل، قد تكفّل بحفظه إلى يوم الدين، يقول تعالى: (إنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وإنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (الحجر: 9)
حينما يغضب القائد لانتهاك الحرمات
كُتب التاريخ تُسطِّر لنا نماذج مضيئة من القادة الذين تحركوا، وبشكل يليق بهذا الدين العظيم، لردع من تُسوّل له نفسه انتهاك حرمات المسلمين، حتى لو كان هذا الفعل في ظاهره بسيط، ولكن مضمونه عظيم.
ومن أبرز النماذج على ذلك ما فعله النبي، صلى الله عليه وسلم، مع يهود بني قينقاع، فقدّ تحدّى اليهودُ المسلمين في المدينة، وأظهروا العداوة لهم، وذلك بعد أن شاهدوا انتصار المسلمين على قريش في بدر، وكان السبب الحقيقيّ لحصار بني قينقاع؛ أنّ امرأةً من المسلمين قصدت أحد الصاغة اليهود، فاحتال عليها اليهود في السوق لتكشف عن وجهها فأبت ذلك؛ فعقد أحد اليهود ثيابها من ظهرها حتى إذا قامت انكشفت عورتها، فضحك اليهود لذلك، وانتصر لها أحد المسلمين الذين كانوا في السوق، وقتل اليهوديّ الذي فعل بها ذلك، فغضبت اليهود لذلك وقاموا بقتل المسلم، وحينما علم النبي، صلى الله عليه السلام، بالخبر حاصر اليهود في حصونهم خمسة عشر ليلةً، حتى استسلموا ونزلوا لحُكمه.
الموقف الآخر تحرك الخليفة العباسي المعتصم، وتجهيز جيشه، لإنقاذ المرأة المسلمة، حيث نقل له أن امرأة شريفة في عمورية، كانت في الأسر عند رجل من الروم، فلطمها، فصاحت: وامعتصماه، فقال لها: “ما يجيء إليك المعتصم إلا على أبلق”، والأبلق طائر بطيء الحركة، وعندما سمع المعتصم ذلك اغتم غمًا شديدًا، وأمر بالرحيل لغزو عمورية؛ والجو بارد والثلج يغطي المكان، وأمر العساكر ألّا يخرج أحد منهم إلا على فرس أبلق، وما زال يحاصر عمورية حتى فتحها ودخلها، وهو يقول: “لبيك لبيك”، وفك قيد الشريفة، وضرب عنق ذلك الرجل.
أقول: على الشعوب أن تغضب وتعبّر عن رفضها لهذا الفعل الأرعن الذي ينال من حين لآخر المقدسات الإسلامية، وأضعف الإيمان مقاطعة تلك الدول على المستوى الاقتصادي، وفضح زيفهم، وادعائهم بأنهم يدافعون عن الحريات والمعتقدات.
وعلى الحكومات، والأنظمة العربية، والهيئات، والمنظمات، والمؤسسات العلمائية أن يكون لهم الأدوار الواضحة في صد تلك الهجمات غير المبررة على الدين الإسلامي بكل الوسائل الممكنة، لا أن يلتزموا الصمت المهين، فإن لم يتحركوا للدفاع عن المقدسات وانتهاك الحرمات، فمتى يتحركوا؟
إن هذا العمل الذي قام به هذا الشخص الأرعن أمام السفارة التركية في استوكهولم، ليس بعيدًا عن الفعل السياسي ضد الإسلام والمسلمين، بل هو انتهاك منظم، وعمل استفزازي، وجريمة كراهية ضد المقدسات الإسلامية، ولذا على المجتمع الدولي أن يتحمل مسؤولياته لنبذ الكراهية والتمييز والتحريض والعنف، ضد الأديان والمقدسات، وهذه مسؤولية الجميع.