د. جمال نصار
ظهرت الكثير من الأنظمة والأيدلوجيات والفلسفات التي تعالج مسألة حق الفرد في التملك؛ فهناك من يُعلي قيمة المجتمع ككل دون اعتبار للفرد، ومنها من يُعطي الأولوية والتميز للفرد دون المجتمع. ومن ثمّ يكون هناك إفراط أو تفريط، بين مجتمع تتنافس فيه شركات استثمارية كثيرة في مساحة لا تسعهم، فيزيد العرض على الطلب، وتقع الكارثة وتعم الفوضى، وبين مجتمع يقيد حركة الاستثمار، فيزيد الطلب على العرض.
ومن ثمّ، وبعد إعلان فشل كلا النظامين عن إسعاد الإنسان، والرفع من شأنه، وجب النظر إلى النظام الإسلامي، والرجوع إليه؛ لإنقاذ البشرية من التيه والتخبط الذي تحياه في المجالين الاقتصادي والاجتماعي.
وإذا تأملنا في نظام الإسلام الاقتصادي والاجتماعي؛ سنجد أنه يمثل العدل الوسط بين النظامين السابقين، أو بتعبير أدق؛ هو نظام قائم بذاته، له فكره الاجتماعي الخاص به، فهو يعترف بقيمة الإنسان، كما يعترف بحقوق المجتمع، فيقيم توازنًا بينهما، بل إنه جعل الفرد للجماعة، والجماعة للفرد عن طريق التضامن العام بين الأفراد، فهو إذن ليس فرديًا فقط يؤدي إلى الرأسمالية، وليس جماعيًا يؤدي إلى الماركسية، وإنما يمنح الفرد قدرًا من الحرية بحيث لا يطغى على كيان الآخرين، ويمنح المجتمع أو الدولة التي تمثله سلطة واسعة في تنظيم الروابط الاجتماعية والاقتصادية على أساس من الحب المتبادل بين الفرد والجماعة، لا على أساس الحقد وإيجاد العداوات بين الناس.
وبناء عليه فهو يعترف بحق الإنسان في التملك الفردي، ويمنحه حق الانتفاع والاستثمار لماله، والتصرف فيه طوال حياته وبعد مماته، في حدود معينة تعتبر أوسع بكثير من القدر الذي تسمح به الشيوعية، ولكنه لا يعطي المالك السلطان المطلق فيما يملك بغير أي قيد عليه كما تفعل الرأسمالية، فهو لا يسمح بالربا والاحتكار، ولا أن تكون الملكية سبيلاً للاستغلال الحرام والطغيان، وبذلك يجمع الإسلام بين مزايا كل من الاشتراكية والرأسمالية، ويتجنب أوجه الانحراف والمبالغة في كل منهما. ولا يمكن القول بأن نظام الإسلام الاقتصادي نظام رأسمالي أو اشتراكي؛ لأن للرأسمالية أو الاشتراكية في الوقت الحاضر معنى محددًا مفهومًا، له خصائص معينة في معالجة الحياة الاقتصادية.
وإنما الإسلام نظام قائم بنفسه لا ينسب إلى مذهب جديد أو قديم، مهمته الربط بين قوى الحياة ومواهب الفطرة في كيان المرء وبين ثمار الطبيعة الظاهرة والباطنة؛ فيحدث التفاعل بين الجانبين، وتتكون الحضارة الصالحة بما في الإنسان من مواهب العقل والروح، وما في الكون من أسرار الحقائق وكنوز المال والثروة، وبما في الإسلام من حلول جذرية لمشكلات الحياة، وقواعد للفرد والمجتمع في الحقوق والواجبات.
وإذا كان في الاشتراكية بعض المعاني الإنسانية التي جاء بها الإسلام من ضرورة التكافل الاجتماعي، فلا يعني ذلك أن نظام الإسلام هو النظام الاشتراكي الماركسي. (الفقه الإسلامي وأدلته للزحيلي: 6/4576).
ومن ثمّ نجد أن النظام الإسلامي زاوج بين النظامين، وانتهج طريق الوسطية منهجًا، وإذا تأملنا في القرآن الكريم نجد أنه ينسب المال تارة إلى الله، فيقول: (وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ) (النور: 33)، (وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَّمْدُوداً) (المدثر: 12)، وتارة إلى الناس فيقول: (الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً) (البقرة: 274).
ربما يظن البعض أن هناك تعارض بين الآيات، ولكن الأمر غير ذلك؛ فالمال مال الله، هو خلقه وقسّمه، ورزقه للإنسان. والمال مال الإنسان، هو كسبه، وهو فيه مستخلف، يعلم كيف يجمعه، وكيف يصرفه. ولا يهتم الإسلام بالتفاصيل بقدر ما يهتم بالضوابط والأطر في هذه القضية بالذات، فالإسلام صالح لكل زمان ومكان، مما يوجب وضع الأسس والضوابط، وترك الوسائل والتفاصيل تخضع لمتغيرات الزمان والمكان والحضارات.
القرآن الكريم والسنة المطهرة يدعمان حقوق الملكية الفردية
أقرت نصوص الشريعة الغرّاء الملكية الفردية في الإسلام، قال تعالى: (وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ) (الأنعام: 152)، وقال: (يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ) (الهمزة: 3)، وقال: (مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ) (المسد:2)، وقال: (لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ) (آل عمران: 186)، وقال: (الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى) (الليل: 18)، هذه الآيات، وغيرها كثير مما ينسب فيه المال إلى الإنسان، تشير بوضوح إلى حرية التملك التي أقرّها الإسلام.
ولم تكن السنة النبوية المطهرة عن ذلك ببعيد، فالنبي، صلى الله عليه وسلم، دعم الملكية الشخصية في الإسلام بقوله: “كل سارحة ورائحة على قوم حرام على غيرهم” (الطبراني فى الكبير، 8/ 207)، وقال أيضًا: “إذا أسلم الرجل فهو أحق بأرضه وماله” (مسند أحمد، 4/ 310)، من هنا أقرّ الإسلام، ومنذ زمن بعيد، الملكية الشخصية، واعترف بحق الأفراد في التملك.
والإسلام في ذلك ينتهج المنهج الوسطى، فهو يقر حق التملك الفردي على أن يبقى منسجمًا مع مصلحة الجماعة، محققًا لأهدافها، متفقًا مع نظرة الإسلام الاقتصادية التي تقوم على تحقيق مصلحة الفرد والمجموع، وهكذا نستطيع القول بأن الملكية الخاصة في الإسلام تؤدى وظيفة اجتماعية. ونظرة الإسلام في ذلك تتفق مع طبيعة النفس البشرية التي تحب المال، وتسعى للتملك، ولم لا والذي وضع المنهج هو الله، سبحانه وتعالى، العالم ببواطن النفس، يعلم السر وأخفى.
ثم بعد ذلك، وبعد أن أقر الإسلام الملكية، ولعلمه، سبحانه وتعالى، أن الأهواء مختلفة متشعبة؛ لذلك فقد وضع، سبحانه، قواعد وأطر لهذه الملكية، فلا غش، ولا ربا، ولا تغرير، ولا استغلال لحاجة الناس، ولا احتكار لقوت المسلمين، فقد قال عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، سمعت النبي، صلى الله عليه وسلم، يقول: “من احتكر طعامًا على المسلمين ضربه الله بالإفلاس أو الجذام” (فتح الباري، ابن حجر، 4/ 348)، كذلك ينبغي عليه تملكه بطريق مشروعة، وأن يكون وسطيًا فلا ينفق بإسراف، ولا يقبض يديه بالبخل، ويجب عليه إخراج زكاة ماله، الذي هو حق الله فيه.
وهكذا فقد كفل الإسلام الملكية الفردية وأقرّها، ولم يغفل في ذلك دور الملكية الجماعية وأهميتها، ووضع القواعد والأطر لهذه الملكية؛ حتى لا تكون ألعوبة تتحكم فيها الميول والأهواء، وتتنازعها الأمزجة والاتجاهات، والالتفاف حول القوانين، وتأويل النصوص بما يتفق وشرههم للمال والسلطة.
ومن التشريعات التي جاء بها الإسلام للحفاظ على الملكية الفردية تشريع الحدود، ومن ذلك حد السرقة؛ بل إن الشريعة الإسلامية اعتبرت الملكية الخاصة استخلافًا إلهيًا، ومنحة ربانية، وشددت في اتباع طرق التملك المشروعة والبعد عن طرق التملك غير المشروعة.
فإننا نجد في هذا الصدد إباحة الإسلام التملك بإحراز المباحات غير المملوكة لأحد؛ كإحياء الموات، وإحراز الكنوز والمعادن، والاصطياد والاحتطاب، وأباح التملك بالتراضي، إما بعوض؛ كالبيع والإجارة والمشاركة وغير ذلك، أو بغير عوض؛ كالهبة والوصية والصدقة، كما أباح التملك بالميراث، وهو ما يحصل بغير اختيار من الوارث، وحرّم الإسلام كل ملكية جاءت بطريق غير مشروع؛ كالسرقة، والغصب، والاحتكار، والغش، وغير ذلك.
كذلك فإن الإسلام شدد في المنع من استخدام الملكية في الإفساد في الأرض، والإضرار بالناس، قال سبحانه: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ) (الأنفال: 36)، وقال تعالى: (وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ) (البقرة: 215)
تلك هي الملكية الشخصية وفلسفتها في إسلامنا الحنيف، ويبقى أن تخرج قواعدها وأطرها إلى حيز التنفيذ، لتخرج إلى النور بما تحمله من إصلاح ونمو لا يتعرض للنكبات والأزمات