كشفت الحرب بين موسكو وكييف، أو بالأحرى بين روسيا والغرب اللثام عن مقاصد وأهداف المجتمع الدولي وازدواجيته، بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية التي تكيل بمكيالين. فإذا تعلّق الأمر بالجنس الأوروبي، أو بالرجل الأبيض؛ الجميع يتحرك ويُدين ويُصدر عقوبات اقتصادية متصاعدة، ويدعم بني جنسه بالمال والسلاح.
أما إذا تعلق الأمر بالعرب والمسلمين؛ فتلك مسألة أخرى يظهر فيها حق الفيتو في مجلس الأمن الذي يسيطر عليه ويتحكم فيه خمس دول فقط، يُسيّرون العالم كله على رغباتهم واختياراتهم، دون أدنى اعتبار لحقوق الإنسان، أو حريته وكرامته.
والأمثلة على ذلك كثيرة ومتعددة سواء كانت في المنطقة العربية، أو ما يتعلق بالعالم الإسلامي ككل، ومن أبرز هذه القضايا: احتلال إسرائيل لدولة عربية بدعم من بريطانيا أولا، حيث زرعت كيان غاصب لأرض فلسطين، وجاءت بعدها الولايات المتحدة الأمريكية لكي تستمر في ذات الدعم والنصرة للمحتل الإسرائيلي على حساب حقوق الشعب الفلسطيني وإنسانيته.
ازدواجية المجتمع الدولي تجاه فلسطين وأهلها
لقد استغل الاحتلال المغتصب انشغال العالم بالحرب الدائرة بين روسيا وأوكرانيا، وقام بالتصعيد المتعمد في الأراضي الفلسطينية، لأنه يعلم أن المجتمع الدولي يدعمه، ومن جانب آخر الدول المتحكّمة في مجلس الأمن تدعمه بكل الوسائل السياسية والعسكرية.
فالكيان الصهيوني تمادى في جرائمه تحت حماية الولايات المتحدة الأمريكية بانتهاكه للقانون الدولي، وقانون حقوق الإنسان، وجميع الشرائع الدولية، وجميع الاتفاقيات والمعاهدات الدولية وعلى رأسها اتفاقيات جنيف الأربع لسنة 1949، واتفاقية لاهاي المتعلقة بالتسوية السلمية للنزاعات الدولية، واتفاقية حقوق الطفل لسنة 1989، لا يوجد بند في ميثاق الأمم المتحدة إلا وانتهكته دولة الكيان الصهيوني.
وعندما نتكلم عن الإبادة الجماعية فإن خير مثال على ذلك ما حدث في النكبة من تطهير عرقي، ولا يزال يحدث حتى الآن في غزة، مرورًا بالمجازر التي ارتكبها الاحتلال في حق الفلسطينيين مثل مجزرة دير ياسين، وكفر قاسم، وصبرا وشاتيلا، وغيرها كثير، والتي ستبقى شاهد عيان على جرائم الاحتلال ضد الإنسانية.
لقد تعرض الشعب الفلسطيني للإجحاف والظلم طيلة هذه المدة رغم القرارات والاتفاقيات الصادرة لصالحه بمقتضى القانون الإنساني والدولي، فبموجب اتفاقيات جنيف الأربع الصادرة بتاريخ 12 أغسطس/ آب 1949 وبروتوكولاتها المُكملة لسنة 1977، والتي صادقت عليها 190 دولة من أصل 193، حيث نصّت الاتفاقية الأولى على حماية الجرحى والجنود والمرضى في الحرب البرية، أما الاتفاقية الثانية فتقضي بحماية الجرحى والمرضى والجنود الناجين من السفن الغارقة في وقت الحرب، والاتفاقية الثالثة خاصة بمعاملة أسرى الحرب، أما الاتفاقية الرابعة فتقضي بتوفير الحماية للمدنيين بما في ذلك الأراضي المُحتلة.
إن الكيان الصهيوني حطّم كل الأرقام القياسية في انتهاك كل القرارات الأممية، فلا يوجد قرار أممي لم تنتهكه إسرائيل من القتل العمد، والإبادة، والاسترقاق، والنقل القسري للسكان، والسجن، والتعذيب، والفصل العنصري، والإخفاء القسري، والإجهاز على الجرحى مباشرة، أو بمنع وصول سيارات الإسعاف والأطقم الطبية واستهدافها، والشواهد كثيرة، حيث يعاني الأسرى نساءً وأطفالا، في سجون الاحتلال الإسرائيلي تعذيبًا جسديًا ونفسيًا دون توجيه أيّ تهمة محددة ومنع العلاج عنهم، والحالة التي وصلت إليها العديد من الأسيرات الفلسطينيات شاهدة على اللاإنسانية لهذا الكيان الذي يدعي السلام، أضف إلى ذلك ما تعيشه غزة منذ أكثر من 15 عامًا تحت وطأة الحصار من قصف واستهداف لمباني المدنيين والمستشفيات، وهي جرائم ضدّ الإنسانية من الدرجة الأولى.
وفي المجمل أستطيع القول إن الغرب يكيل بمكيالين، حيث يعاقب روسيا اقتصاديًا بشكل كبير وواسع، وإبعادها من النظام المالي الدولي “سويفت”، ورياضيًا بمنع الدورات والمقابلات الرياضية، وثقافيًا بمنع حتى الموسيقى الروسية في بلادها، ولكن إذا تعلق الأمر بالقضية الفلسطينية وغصب واحتلال الأراضي الفلسطينية، وسفك الدم الفلسطيني يصبح عندهم التطبيع مع الجلاد والمجرم أمرًا مطلوبًا بإلحاح، ويقال لنا إنه لا يجب إدخال الشأن الاقتصادي والرياضي والثقافي في الموضوع!
تغييب دور العرب عن نصرة القضية الفلسطينية
وفي ذات السياق يتم تغييب الشعوب العربية عن نصرة القضية الفلسطينية، ويظهر ذلك جليًا، في الممارسات التي تمارسها الأنظمة المستبدة في المنطقة العربية، من خلال منع التعاطف أو دعم الفلسطينيين، وهذا الأمر تم العمل عليه منذ فترة طويلة، بزرع تلك الأنظمة العميلة لكي تكون بجانب الاحتلال، في مواجهة الشعب الفلسطيني.
ولعل موجة التطبيع والهرولة تجاه إسرائيل في الفترة الأخيرة بقيادة الإمارات العربية المتحدة خير دليل على ذلك، وتبعها في ذلك بعض الدول العربية والأفريقية. وهذا من النكبات التي يعيشها العالم العربي والإسلامي، فبدلًا من استغلال إمكانيات تلك الدول لنصرة الحق والعدل وتقرير المصير للشعب الفلسطيني، يدعمون العدو الصهيوني بكل الوسائل.
وللأسف نجد أن مواقف الجامعة العربية لا قيمة لها في السياسية الدولية، بسبب ضعف تلك الأنظمة التي تديرها هذه المنظمة، وعدم استقلاليتها وتبعيتها، فكل التوصيات التي تخرج بها الجامعة لم ولن يكون لها تأثير في تغيير سياسات الدول الكبرى تجاه فلسطين، طالما هناك حالة مزرية من التبعية، وعدم الاستقلال الوطني، ودعم ظاهر وخفي للكيان الصهيوني.
هل من دور للشعوب العربية والإسلامية لدعم القضية الفلسطينية؟
هناك العديد من الجهود التي يمكن أن تُبذل لدعم القضة الفلسطينية على عدة مستويات: أولها على المستوى الدبلوماسي المتمثل في السلطة الفلسطينية، فلا يوجد ما يمنع أن تذهب للمحكمة الجنائية الدولية وتخوض هذه المعركة ولا ترضخ للابتزاز السياسي، ولا تعول على أي مسار سياسي آخر، والذهاب بالأمور الحقوقية والقانونية إلى المحكمة الجنائية الدولية، وملاحقة مجرمي الحرب عن الجرائم التي يرتكبونها، أما المستوى الثاني فيتمثل في النضال الشعبي العربي والعالمي، لفضح هذه الممارسات، مع رفع منسوب التوعية عن طريق المؤسسات والنقابات المهنية والاتحادات الطلابية، والمستوى الثالث هو المحور المدني بالتوعية القانونية عبر المنظمات الحقوقية الرسمية وغير الرسمية، والبرلمانات ومنظمات المجتمع المدني. ومن ثمّ يمكن السير في العديد من التحركات التي تدعم القضية الفلسطينية، منها:
أولًا: ضرورة إعادة اللحمة الفلسطينية من خلال تجاوز مرحلة الانقسام بين الفصائل، خاصة بين حركتي فتح وحماس، من أجل رص الصف الوطني الفلسطيني لمواجهة كل المشاريع والمخططات الاستيطانية للاحتلال الإسرائيلي.
ثانيًا: لجوء المواطنين الفلسطينيين الذين صودرت أراضيهم، أو صدرت في حقها قرارات بالمصادرة من طرف الاحتلال، إلى القضاء، بما في ذلك القضاء الإسرائيلي، الأمر الذي أثبت فعاليته في إلغاء العديد من هذه القرارات كما حصل في قرية “مناحيل” الفلسطينية بعد توجههم إلى القضاء الإسرائيلي.
ثالثًا: المزاوجة بين المعركة القانونية باللجوء إلى المنظمات الدولية، وبين المعركة السياسية بكسب الدعم الدولي للقضية الفلسطينية لوقف سياسة مصادرة وضم الأراضي الفلسطينية إلى دولة الاحتلال، والتأكيد على حق الفلسطينيين في أراضيهم.
رابعًا: في ظل أعمال مصادرة الأراضي وهدم البيوت وتشريد أهلها، تبقى المقاومة بكل أشكالها خيارًا استراتيجيًّا لردع المحتل الذي لا يعرف إلا لغة القوة، وعدم التفريط أو الانصياع إلى لغة الاستسلام التي تمارسها بعض الأنظمة العربية.
خامسًا: حث الدول والشعوب على مقاطعة المنتجات الإسرائيلية، خاصة تلك المنتجة في المستوطنات، ونشر الوعي بهذه المسألة، لأن تأثيرها كبير على المدى البعيد على العدو الصهيوني، وفي ذات الوقت فضح الدول والمؤسسات التي تدعم إسرائيل بالتطبيع معها في المجالات المختلفة.