لا يزال النظام المصري يمارس أبشع الجرائم بحق السجناء السياسيين، وخصوصًا من الإخوان المسلمين، مما أدى إلى قتل العشرات داخل السجون، إما بالتعذيب الوحشي، أو بالإهمال الطبي، مع المعاملة التي تفتقد لأقل معاني الإنسانية، والإهدار الكامل للائحة السجون التي يجب أن تلتزم بها إدارة السجون.
وكان من جرّاء هذه الممارسات التخلص من الرئيس الشرعي المنتخب ديمقراطيًا بالقتل العمد، مع سبق الإصرار والترصد، وقد سبقه العديد من القيادات السياسية الإخوانية في السجون المصرية، على رأسهم المرشد العام السابق لجماعة الإخوان المسلمين الأستاذ محمد مهدي عاكف، رحمه الله، ولحق به – أيضًا – آخرون قتلهم نظام السيسي، بأشكال مختلفة، وكان آخر هذا الإجرام المتعمد، قتل الدكتور عصام العريان داخل سجن العقرب سيئ السمعة، الذي صُمم خصيصًا لمعاقبة السياسيين. وما فعلوه في مراسم دفن الأستاذ عاكف والرئيس مرسي، فعلوه مع الدكتور العريان، من عدم السماح لأهله ومحبيه بتشييعه ودفنهم بالشكل اللائق، والأجهزة الأمنية هي التي أشرفت على الدفن بشكل مريب، ومنعت عمل أي مراسم للعزاء بكل أشكاله.
بروز شخصية العريان في المنظمات والهيئات النقابية والشعبية والعلمية
الدكتور عصام العريان علم بارز من أعلام الحركة الإسلامية في حقبة السبعينيات، عُرف بنشاطه، وثقافته الدينية المتميزة بين أقرانه، من أمثال: الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح، فك الله حبسه، والدكتور حلمي الجزار، والدكتور أنور شحاتة، رحمه الله، والدكتور محمد على بشر، فك الله حبسه، والمهندس خيرت الشاطر، فك الله حبسه، والدكتور إبراهيم الزعفراني، والأستاذ مختار نوح، والدكتور محمد عبد اللطيف، والمهندس أبو العلا ماضي، والأستاذ صلاح عبد المقصود، والأستاذ محمد عبد القدوس، والدكتور أحمد عمر، والدكتور السيد عبد الستار المليجي، وغيرهم كثير، ممن كان لهم الدور البارز في نقل الحركة الإسلامية، وخصوصًا دعوة الإخوان المسلمين، إلى الجامعات المصرية، والنقابات المهنية فيما بعد.
وشغل عضوية العديد من المنظمات الأهلية والحقوقية والشعبية بالإضافة لعمله النقابي كأمين عام مساعد، وأمين الصندوق، بنقابة أطباء مصر، فكان عضوًا مؤسسًا في المؤتمر الإسلامي القومي، وعضوًا بالمؤتمر القومي العربي، وعضوًا مؤسسًا في المنظمة المصرية لحقوق الإنسان، وعضوًا مشاركًا في المنظمة العربية لحقوق الإنسان، وقام بتشكيل مؤسسة شعبية بهدف الوقوف إلى جانب شعب فلسطين، باسم “ملتقى التجمعات المهنية لمناصرة القضية الفلسطينية”، وعضوًا في مجلس الشعب المصري لدورتين الأولي (1987 – 1990)، والثانية من (11 يناير 2012 – 14 يونيو 2012).
ونائب رئيس حزب الحرية والعدالة منذ تأسيسه في 30 أبريل عام 2011 حتى 19 أكتوبر 2012، وعضوًا في الجمعية التأسيسية المصرية لكتابة الدستور 2012، وأحد أعضاء الفريق الاستشاري لرئيس الجمهورية حينئذ الدكتور محمد مرسي.
واهتم العريان بالدراسات الإنسانية، فحصل على ليسانس الحقوق والتاريخ في جامعة القاهرة، كما درس الشريعة الإسلامية في جامعة الأزهر، وحصل على إجازة في التجويد.
مواقف شخصية مع الدكتور العريان
لقد سمعت كثيرًا عن هذا الجيل المتميز وتابعت نشاطهم النقابي البارز، في نقابات الأطباء والمهندسين والصحفيين والمحامين، وكان لي شرف اللقاء مع الدكتور عصام العريان في منتصف الثمانينيات وتحديدًا في العام 1987 حينما كان أصغر عضو في مجلس الشعب، حيث ذهبت لزيارته في بيته، في منطقة الطالبية بالهرم بمحافظة الجيزة، للحديث معه حول اعتقال بعض الطلاب في جامعة القاهرة، ورتّب لي مع مجموعة من الزملاء لزيارة مجلس الشعب، واللقاء بالمجاهد إبراهيم شكري، رحمه الله، الذي كان زعيمًا للمعارضة في مجلس الشعب وقتئذ، للحديث عن مشكلات الطلاب في الجامعة.
عصام العريان الذي شهد له العدو قبل الصديق بدماثة أخلاقه، ووعيه السياسي، وثقافته العالية، وأسلوبه الجزل الذي يصل إلى الجماهير بكل سهولة، وحضوره الإعلامي المتميز، وقربه من القوى السياسية بكل أطيافها. ولا أنسى العبارة التي قالها لي ذات يوم أحد إعلاميّ نظام مبارك سابقًا، والسيسي حاليًا، وهو الصحفي “حمدي رزق”، أن عصام العريان ماكينة إعلامية متحركة.
ولا أنسى – أيضًا – حينما كنت أتواصل مع زملاء آخرين بالقوى السياسية المختلفة في مصر لترتيب العديد من المؤتمرات الجماهيرية في نقابة الصحفيين، منذ العام 2003، أثناء الحرب على العراق، وضد الهيمنة الأمريكية في المنطقة، كان طلب هؤلاء في كل مناسبة أن يشارك الدكتور عصام العريان بالحديث في هذه المؤتمرات، لأنه كان يتّسم بكثرة الوصال، وحُسن المعاملة مع الجميع، ووعيه السياسي المحنك.
وحينما كنت رئيسًا لتحرير موقع إخوان أون لاين منذ العام 2002، بصفتي عضوًا في نقابة الصحفيين المصرية، كنت شديد الصلة بالدكتور العريان، وألقاه بشكل شبه يومي، وألحظ فيه نشاطه المتميز، وشغفه بمتابعة وقراءة الصحف والمجلات في الصباح الباكر، ثم يذهب بعد ذلك إلى نقابة الأطباء، حيث كان أمينًا لصندوق النقابة العامة، وتجده في النقابة لا يهدأ ولا يستقر في مكتبه، فهو ينتقل بين المكاتب لإنهاء وتيسير العديد من القضايا التي يتابعها، وكانت له علاقة خاصة بكل أعضاء النقابة، وخصوصًا نقيب الأطباء الدكتور “حمدي السيد”، على الرغم من كونه عضوًا في الحزب الوطني الحاكم.
لقد سُجن الدكتور عصام العريان ما يقرب من (15) سنة منذ عهد السادات، ومبارك، والمجلس العسكري، وانتهاءً بالسيسي، وتصادف في إحدى هذه المرات في عصر مبارك أن كان لي شرف اللقاء بالدكتور عصام داخل سجن مزرعة طرة، وكنت أجده حريصًا على أن يتقرب إلى الله، تبارك وتعالى، بالصيام، والقيام، وقراءة القرآن، ومراجعته داخل محبسه، كما كان يشرح لزملائه السجناء حِكم “ابن عطاء الله السكندري”، وكان دائمًا يذكِّرهم بالقرب من الله، والاستفادة من فترة السجن بحفظ كتاب الله ومراجعته، والحصول على دراسات عليا، أو دبلومات متخصصة، وقد أُتيح لي أن حصلت على دبلوم المفاوضات الدولية من كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة في العام 2007 أثناء مكوثي في السجن.
وفي العام 2007 تقريبًا علمت من الدكتور عصام بأنه ذاهب لمناظرة في معرض الكتاب مع الدكتور رفعت السعيد حول كتابه (المتأسلمون)، وطلب مني أن أقرأ الكتاب وأبدي ملاحظاتي، فقرأته كاملا، وحددت العديد من الصفحات التي تدل على جهل رفعت السعيد بالإسلام، وخصوصًا ما يتعلق بمسألة الحجاب، وعلقت بذلك بعد الانتهاء من المناظرة، فكان انشغال رفعت السعيد بالرد عليّ أكثر من رده على الدكتور عصام لأنه كان أكثر دبلوماسية، وكان يدير المناظرة الصحفي محمد صلاح الذي كان مديرًا لمكتب صحيفة الحياة في القاهرة، حينئذٍ.
وفي العام 2008 تقريبًا نلت شرف الذهاب معه لإلقاء محاضرة لطلاب أمريكان في منطقة الدقي بالجيزة، طلبوا منه التعرف على دعوة الإخوان المسلمين والأوضاع السياسية في مصر، وكانت باللغة الإنجليزية، وأثناء إلقائه المحاضرة كنت أجلس في طرف القاعة، وانظر لانطباع الطلاب من كلامه، وكان ماهرًا في عرض أفكارًا باللغة الإنجليزية، لدرجة أنني قلت له مازحًا، بعد الانتهاء من محاضرته، كأنني أرى الرئيس بوش وهو يتحدث إلى الجماهير.
الأستاذ عاكف والعريان ومبادرة الإصلاح
الأستاذ محمد مهدي عاكف المرشد السابق لجماعة الإخوان المسلمين، رحمه الله، كان شديد الصلة بالدكتور عصام العريان، بل أستطيع القول بأنه كان من أقرب الإخوان لقلبه، وكان دائمًا يثمِّن نشاطه وحيويته، وكانت تربطهم علاقة خاصة، نتيجة للتقارب الفكري والنشاط والحيوية التي كان يتمتع بها كل منهما، وربما أحدث ذلك الأزمة الشهيرة في مكتب الإرشاد، بعد وفاة الأستاذ محمد هلال عضو المكتب، وطبقًا للائحة يكون الأقرب في الأصوات له الأحقية في تصعيده لهذا الموقع، وكان الدكتور العريان هو هذا الرجل، الذي وقف العديد من أعضاء المكتب ضد تصعيده، مما دفع الأستاذ عاكف للاستقالة والمكوث في بيته لفترة. وإن كان قد صُعِّد العريان فيما بعد لعضوية مكتب الإرشاد.
وفي العام 2004 الذي تم فيه اختيار الأستاذ عاكف مرشدًا لجماعة الإخوان المسلمين، بعد وفاة الأستاذ مأمون الهضيبي، رحمه الله، طرح الدكتور العريان على الأستاذ عاكف، عمل مبادرة للإصلاح السياسي في مصر، وتحمّس لها الأستاذ عاكف، وطرحها على الإخوان ولاقت قبولًا واستحسانًا، وعُرضت في مؤتمر صحفي عالمي بنقابة الصحفيين المصرية، وكان من أهم بنودها:
إبعاد الجيش عن السياسة وتفرغه فقط لحماية أمن الدولة، وبناء الإنسان المصري والإصلاح السياسي وإصلاح القضاء والإصلاح الانتخابي، ورفض مبادرات الإصلاح الخارجية وإدانة محاولات الهيمنة الأجنبية وجميع أشكال التدخل الأجنبي في شؤون مصر والمنطقة العربية والعالم الإسلامي، واختيار شيخ الأزهر يجب أن يكون بالانتخاب من هيئة كبار العلماء، ويقتصر القرار الجمهوري على تسمية من ينتخبه العلماء.
احترام حق الفرد في المشاركة السياسية والالتزام بمبدأ تداول السلطة عبر الاقتراع الحر والنزيه، والتأكيد على حرية الاعتقاد الخاص وحرية إقامة الشعائر الدينية لجميع الأديان السماوية المعترف بها، وحرية تشكيل الأحزاب السياسية وعقد الاجتماعات الجماهيرية العامة وحق التظاهر السلمي، ووقف تدخل السلطات في جميع خطوات العملية الانتخابية وتشكيل لجنة أو هيئة مستقلة للإشراف على الانتخابات.
واحترام استقلال القضاء بجميع درجاته، والفصل بين سلطتي الاتهام والتحقيق، وتعديل القوانين وتنقيحها بما يؤدي لتطابقها مع الشريعة الإسلامية، وتطوير التعليم والبحث العلمي، وتدريب المعلمين بالوسائل العلمية الحديثة، وتحسين أوضاعهم، ورفع النسبة المخصصة للتعليم في ميزانية الدولة.
والأقباط هم جزء من نسيج المجتمع المصري، وشركاء الوطن والمصير، ولهم مثل ما لنا وعليهم مثل ما علينا، وحرية الاعتقاد والعبادة محترمة للجميع، والتعاون في كل ما يخدم الوطن ويحقق الخير لكل المواطنين أمر لازم، والحرص على روح الأخوة التي ظلت تربط على مدى القرون بين أبناء مصر جميعًا مسلمين وأقباط، وإشاعة الأصول الداعية إلى المحبة والمودة، وتأكيد الوحدة الوطنية، وعدم السماح لأي نشاط يؤدى إلى إثارة مشاعر التفرقة الدينية أو التعصب الطائفي.
وحق المرأة في المشاركة في انتخابات المجالس النيابية وما هو في مثلها، وتتولى عضوية هذه المجالس في نطاق ما يحفظ لها عفتها وحيادها وكرامتها دون ابتذال، والقضاء على الأميّة المتفشية بين النساء ولا سيما في الريف، وصيانتها في كل مكان، في وسائل الانتقال وفى أماكن العمل.
وجوب الإصلاح الجاد لمفردات الثقافة القائمة ووسائلها من صحف ومجلات وإذاعة وتلفاز، وصياغة واعية للإعلام المقروء والمسموع والمرئي، وحرية وتدعيم نشر الكتاب، وتشجيع الندوات والمؤتمرات والمعارض، وتشجيع السياحة العلمية وسياحة المؤتمرات، وإعادة النظر في دور المجلس الأعلى للثقافة، والمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، وكافة المؤسسات الثقافية، بما يكفل الإصلاح الثقافي المنشود، وترشيد دور السينما والمسرح، بما يتفق ومبادئ وقيم الإسلام. وقد لاقت هذه المبادة استحسانًا كبيرًا من القوى السياسية المصرية، وأحدثت زخمًا في الإعلام المصري والإقليمي والدولي.
رحم الله الدكتور العريان، وألحقه بالنبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقًا، فقد كان أمة وحده، فريدًا في نهجه، قريبًا من ربه، صاحب أخلاق عالية، مثقف الفكر، نافعًا لغيره، واعيًا بهموم أمته، يحمل بين جنباته الحب لوطنه والإخلاص له ولدعوته ولإخوانه. ولذلك قتله العسكر الذي خرّب البلاد وأنهك العباد!
(وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ) (إبراهيم: 42)