ممدوح الولي – الجزيرة مباشر
أشارت البيانات الرسمية إلى بلوغ العجز بميزان المدفوعات المصري خلال الربع الأول من العام الميلادي الحالي 7.255 مليار دولار، وهو أعلى رقم فصلى تاريخي للعجز بميزان المدفوعات المصري، والذي فاق قيمة العجز به خلال الربع الأول من عام 2011، إبان ثورة الخامس والعشرين من يناير والبالغ 6.1 مليار دولار حينذاك.
وكذلك قيمة العجز خلال الربع الثاني من عام 2020 مع ذروة الآثار السلبية لفيروس كورونا، وتعطيل حركة الطيران والسياحة وانخفاض الصادرات والبالغ 3.5 مليار دولار حينذاك، وكذلك العجز الذي أَلمّ به نتيجة تداعيات الأزمة المالية العالمية.
وتمثل قيمة العجز بميزان المدفوعات الفرق بين مجمل موارد النقد الأجنبي من كافة المصادر من صادرات سلعية وخدمية ومن تحويلات للعمالة ومعونات وقروض واستثمار أجنبي بنوعيه، وبين كافة المدفوعات إلى العالم الخارجي كالواردات السلعية والخدمية ومدفوعات فوائد الاستثمارات الأجنبية وسداد فوائد وأقساط الدين الخارجي.
وهكذا تحقق هذا العجز الضخم غير المسبوق رغم زيادة القروض الخارجية بنحو 12.3 مليار دولار خلال الربع الأول من العام الحالي، مع الخروج الكبير لاستثمارات الأجانب فى أدوات الدين الحكومي من أذون وسندات خزانة.
ويتم توزيع حوالي 14 مجموعة من موارد النقد الأجنبي وما يقابلها من مدفوعات على عدد من الموازين الفرعية هي: الميزان التجاري، والميزان الخدمي، وميزان الدخل، وميزان التحويلات، والحساب المالي والرأسمالي، إلى جانب حساب السهو والخطأ لما لا يرد بتلك الموازين الفرعية.
عجز بالموازين الفرعية عدا التحويلات
وكشفت البيانات التفصيلية لمكونات ميزان المدفوعات الكلى عن أرقام صادمة بالنسبة لغالبية الموازين الفرعية به، ففي الميزان التجاري الذي يقيس الفرق بين قيمة الصادرات والواردات السلعية، بلغت قيمة العجز 8.9 مليار دولار، رغم التحسن النسبي لقيمة الصادرات المصرية مع ارتفاع سعر النفط والغاز الطبيعي وأسعار السلع دوليا، ورغم تقييد الواردات من خلال الإجراءات البيروقراطية من قبل وزارتي المالية والتجارة وكذلك البنك المركزي لتقليل حجمها.
وها هو ميزان التجارة الخدمية الذي ظل يحقق فائضا خلال العقود الماضية، يساهم به في تخفيف حدة العجز الكبير المزمن بالتجارة السلعية، يتحول هو الآخر لتحقيق عجز بلغ 636 مليون دولار، مع استمرار انخفاض الإيرادات السياحية وعودة رحلات العمرة، ورغم تحسن إيرادات قناة السويس.
لينضم الى العجز بميزان الدخل بسبب كبر مدفوعات الفوائد لاستثمارات الأجانب بمصر بقيمة 4.2 مليار دولار، وخفف من تأثير العجز بالموازين الثلاثة السابقة: التجاري والخدمي والدخل، الفائض الذي حققته تحويلات المصريين بالخارج بنحو 7.9 مليار دولار.
إلا أن تحويلات المصريين بالخارج لم تستوعب كامل قيمة العجز بالموازين الثلاثة التجاري والخدمي والدخل، ليحقق ميزان المعاملات الجارية الذي يضمن تلك الموازين الأربعة: التجاري والخدمي والدخل والتحويلات، عجزا بلغ 5.8 مليار دولار وهو أيضا رقم غير مسبوق تاريخيا.
وعادة ما يربط الخبراء بين قيمة العجز في ميزان المعاملات الجارية وحجم الفجوة الدولارية بالبلاد، حيث يتحدث البعض عن توقع بلوغ الفجوة الدولارية أكثر من 25 مليار دولار خلال فصول العام الحالي، ولهذا يتوقعون حجما كبيرا للقرض الجاري التفاوض عليه مع صندوق النقد الدولي لسد الجانب الأكبر من تلك الفجوة الدولارية.
القروض غير كافية لإنقاذ الموقف
وكانت الحكومة المصرية تلجأ خلال السنوات الماضية إلى المكون الأخير بميزان المدفوعات، والخاص بالحساب المالي والرأسمالي والذي يتضمن القروض الخارجية، واستثمارات الأجانب المباشرة ومشترياتهم لأدوات الدين الحكومي من أذون وسندات وخزانة، واستثماراتهم بالبورصة المصرية، بحيث يحقق الفائض المتحقق بالحساب المالي والرأسمالي تفوقًا على العجز المعتاد بميزان المعاملات الجارية.
ينجم عنه فائضا ولو محدودا بالميزان الكلى للمدفوعات، تتغنى به الحكومة إعلاميا وترجعه في تصريحاتها إلى برنامج الإصلاح الاقتصادي الذي جرى منذ أواخر عام 2016، رغم تحقق هذا الفائض المحدود غير الدائم، نتيجة الاقتراض الخارجي وبيع أدوات الدين الحكومي للأجانب كشكل آخر من أشكال الاقتراض الخارجي.
إلا أن الحساب المالي والاستثماري بالربع الأول من العام الحالي حقق عجزا بلغ 609 ملايين دولار، رغم زيادة القروض الخارجية خلال تلك الفترة بنحو 12.3 مليار دولار، نتيجة الخروج المكثف للأجانب من أدوات الدين الحكومي المصري، بعد رفع الفيدرالي الأمريكي الفائدة أكثر من مرة، وتداعيات الحرب الروسية الأوكرانية وسعى هؤلاء للبحث عن ملاذ آمن لأموالهم.
إلى جانب عجز بحساب السهو والخطأ بقيمة 854 مليون دولار، ليسفر الأمر عن بلوغ العجز بالميزان الكلى للمدفوعات 7.255 مليار دولار خلال الربع الأول من العام الماضي، وهو العجز المتوقع استمراره خلال الربع الثاني من العام الحالي بل وبالفصول التالية.
في ضوء بيانات تصاعد العجز في صافي الأصول الأجنبية -العُملات- بالجهاز المصرفي، حتى نهاية مايو الماضي ليصل إلى 16.4 مليار دولار كآخر بيانات مُعلنة، واستمرار انخفاض الاحتياطيات من النقد الأجنبي بالبنك المركزي المصري خلال النصف الأول من العام الحالي بنحو 7.6 مليار دولار.
صعوبات تواجه طرح سندات خارجية
ويظل السؤال الأهم ماذا ستفعل السلطات المصرية لمواجهة هذا العجز غير المسبوق بميزان المدفوعات؟
وكان المعتاد اللجوء إلى الاقتراض سواء من دول أو مؤسسات إقليمية أو في صورة إصدار سندات، والحفاظ على معدل فائدة مرتفع لاجتذاب أموال تجارة الفائدة لشراء أدوات الدين الحكومي، إلا أن تراجع القيمة السوقية للسندات المصرية بالبورصات الدولية بشكل حاد حاليا، جعل إمكانية طرح سندات جديدة أمرا صعبا، وحتى الصكوك السيادية التي استعدت لطرحها بالخارج تم تأجيلها لنفس السبب.
كما أدى رفع الفائدة الأمريكية والأوربية والبريطانية وبالعديد من دول العالم، وتوقع مزيد من رفع الفائدة الأمريكية خلال العام الحالي بعد رفعها ثلاث مرات بالعام الحالي حتى الآن، إلى صعوبة عودة الأموال الساخنة حاليا لشراء أدوات الدين الحكومي قصيرة الأجل.
خاصة مع العائد الحقيقي السلبي لها نتيجة ارتفاع نسبة التضخم عن سعر الفائدة، وكذلك النظرة المستقبلية السلبية للاقتصاد من قبل إحدى وكالات التصنيف الدولية، إلى جانب خروج المستثمرين الأجانب من البورصة المصرية.
لتنشط الحكومة في إجراءات تحجيم الواردات لتخفيف الضغط على الموارد الدولارية، إلا أنه في ظل اعتماد الصادرات المصرية نسبة كبيرة من المكونات المستوردة، فقد أدت إجراءات تحجيم الاستيراد إلى تراجع قيمة الصادرات السلعية بشهر مايو من العام الحالي بنسبة 19 % بالمقارنة بشهر أبريل من نفس العام حسب جهاز الإحصاء، بل وأقل من صادرات شهري فبراير ومارس.
واتجهت الدولة الى الإعلان عن تشجيع القطاع الخاص استجابة لمطلب صندوق النقد الدولي، كأحد شروط الحصول على القرض الجديد، وتجهيز بعض الحوافز للقطاع الخاص كي يشارك في تخفيف الأعباء عنها، كما أعلنت عن إعطاء دفعة لبرنامج الخصخصة وتجهيز عدد من الهيئات والشركات لبيع جانب من أسهمها خاصة للصناديق السيادية الخليجية، كمقابل لما حصلت عليه من قروض من دولها إلى جانب الحصول على موارد دولارية تقلل حدة النقص بالعملات الأجنبية، التي زاد الطلب عليها من قبل المستوردين والمضاربين بعد عودة السوق السوداء، توقعا لانخفاض جديد بسعر صرف الجنيه المصري أمام الدولار، يتفق الخبراء على حدوثه وإن كانوا يختلفون حول قيمته وأسلوب تحقيقه ما بين الإجراء الفجائي، أو الخفض التدريجي المستمر حاليا منذ شهر مارس الماضي.