فرضت طبيعة الصراع الحالي في العالم العربي نمطًا واضحًا، يؤدي – إذا استمر الحال على ما هو عليه – إلى تفتيت المنطقة إلى دويلات وفرق وجماعات، ومن ثمَّ إلى صراع طويل تظهر تجلياته في غياب الهوية الوطنية الجامعة، وواقع سياسي متشرذم، وظروف اجتماعية بائسة، وانقسامات دينية وطائفية مقيتة، وانتشار للجماعات المسلحة العابرة للقارات والحدود التي تفتك بوحدة الوطن وتماسكه. وعلى ذلك لابد من استجلاء هذه المفردات للمساهمة في تخفيف حدة الصراع، والسير نحو آفاق جديدة تساهم في استقرار الأوضاع في المنطقة.
فالهوية الوطنية للمجتمع تتشكل من اللغة والتراث التاريخي للمجتمع، وكذلك القيم الحاكمة لهذا المجتمع بالإضافة إلى رؤيته وأهدافه المستقبلية.
وحقائق التاريخ الإنساني تؤكد أنه لابد من البدء في تصميم وتمكين الهوية الوطنية للمجتمع الواحد كبنية تأسيسية لباقي مراحل وعمليات بناء الدولة الحديثة، وإذا نظرنا إلى تجارب بعض الدول نلاحظ أنها تسعى إلى تمكين الهوية الوطنية الواحدة، مثل: الولايات المتحدة الأمريكية التي استوعبت أضخم تعدد وتنوع بشري عرفته البشرية ومزجته في كيان واحد ومنظم وموجه لتحقيق المصالح الأمريكية العليا، حين بادرت بصناعة الهوية القومية الأمريكية، كذلك الأمة اليابانية والبريطانية والفرنسية، والماليزية، وأخيرًا التركية.
وتتمثل أهمية الهوية الوطنية في قدرتها على تحويل التعدد والتنوع الطبيعي للمجتمع إلى ثروة وطنية لتنمية ونهضة المجتمع، وتحويل التقاطع والصراع الطائفي إلى احتشاد منظم نحو بوصلة وطنية واحدة.
ويبدو أن المشهد السياسي والحضاري في الوطن العربي، أصبح أشد إلحاحًا لإثارة سؤال إلى أين تتجه المجتمعات العربية؟ وهل واقعنا المجتمعي يمتلك القدرة على اجتراح سبل الانطلاق والخروج من مآزق الوضع الراهن أم لا؟ لعل سيرورته التاريخية وتنوع مكوناته وتوجهاته ورهاناته وإحباطاته كلها عناوين تزيد من عمق الحاجة إلى إثارة هذا السؤال، والإخفاق التاريخي الذي نعانيه، ليس وليد الدولة البعيدة عن خيارات الشعب فحسب، بل هو أيضًا وليد المجتمع الضعيف، الجامد، الذي فقد المبادرة، وتوقفت مسيرة البناء والتأسيس لديه.
فبعض الدول في العالم العربي، تعاني من أزمة في شرعيتها وبنيتها ودورها ووظيفتها الحضارية، كما أن المجتمع أيضًا يعاني من أزمة تتجسد في تفتته وتشرذمه واستحكام نمط التبعية والاستهلاك الترفي في مساره السياسي والاقتصادي والحضاري.
ولم تحقق حتى الآن الثورات العربية، التي ضحّت بالكثير من أبنائها، ما كانت تصبو إليه من عيش، وحرية، وعدالة اجتماعية، وكرامة إنسانية، فلا يوجد شيء أثقل على النفس من تجرع مرارة الحاجة والعوز المادي، فهي تنال من كرامة الإنسان ومن نظرته لنفسه وعلى الخصوص عندما يكون الفرد مسؤولاً عن أسرة تُعوِّل عليه في تأمين احتياجاتها المعيشية.
وتؤكد الإحصاءات أنّ هناك عشرات الملايين من العاطلين عن العمل في المنطقة العربية من جيل الشباب، وبالتالي يعانون من الفقر والحاجة والحرمان، وتخلف أوضاعهم الصحية، أو تأخرهم عن الزواج، وتكوين أُسر مستقرة، أو عجزهم عن تحمل مسؤولية أُسرهم، بالإضافة إلى ضعف الانتماء للوطن، وكراهية المجتمع، وصولاً إلى ممارسة العنف والإرهاب.
والطائفية في العالم العربي ترتفع وتيرتها وتستعر نارها ويقوى تأثيرها وفعلها، لأسباب متنوعة، منها ما هو داخلي يمس مباشرة التركيبة السياسية، والاجتماعية، والاقتصادية، والتربوية، ومنها ما هو خارجي له علاقة بالصراع العربي الإسرائيلي، وما هو مرتبط ببعض الدول مثل إيران، وتنامي التيارات المتشددة في المنطقة فضلا عن التدخلات الدولية وتفاعلاتها.
لذلك لا يمكن تجاوز الطائفية أو الحد من تأثيرها قبل قيام نظام اقتصادي يعتمد أساسًا على الإنتاج وتفعيل دورة الحياة الواحدة على مستوى المساحة العامة للوطن، مما يعزز الاندماج الوطني، والاختلاط بين مختلف الطوائف والمذاهب والفئات، ويعتمد على خطة واحدة للتنمية الشاملة المستمرة بهدف إعادة الاعتبار للدولة.
ونلحظ في الآونة الأخيرة ظهور جماعات مسلحة عابرة للحدود مثل: تنظيم الدولة الإسلامية المعروف بـ “داعش”، وسبقها تنظيم القاعدة، وهذه الجماعات المسلحة العابرة للحدود عندما تدخل إلى أي بلد، فلن تخرج منه بسهولة، وستحوله إلى ساحات حرب طويلة الأمد.
فهناك مناطق ما زالت مشتعلة، ولم تحل قضاياها حتى الآن، مثل: أفغانستان، التي لم تستقر أوضاعها كما ينبغي، فما زالت بؤرة للسلاح والاحتراب، ولم يستطع حلف الناتو نفسه أن ينتصر على الجماعات هناك. والصومال، تقوى فيها الجماعات المسلحة أكثر وأكثر، وكذلك سوريا أصبحت ساحة دولية يتقاتل على أراضيها القاصي والداني، والعراق كذلك تزداد عنفوانًا بسبب البعد المذهبي والطائفي.
والخلاصة، أن المنطقة العربية ربما تواجه مخطط تقسيم وتفتيت من داخلها – إذا بقيت الأمور على حالها – واستعمال “الإرهاب” كمدخل للتدخل وتكريس مخطط التجزئة والتفتيت تحت شعار مكافحة الإرهاب، وعلى الأرجح لن يستطيع التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية القضاء على هذه الظاهرة، لأن المعالجات خاطئة، ولا تتعامل مع جذور المشكلة.